خامساً: أن كثيراً من المسلمين يأخذ قصة الصحابي من نصفها، فيبدأ في دراسة حياة الصحابي منذ لحظة إسلامه، ويغفل تماماً الفترة التي عاشها الصحابة في الجاهلية، وينسى كيف كان الصحابي قبل أن يصير إلى ما صار إليه، لذلك إذا قمت بدراسة حياة الصحابي كوحدة متكاملة، فدرسته في جاهليته، ثم درسته في إسلامه، وقرأت عن أخلاقه قبل الهداية، وأخلاقه بعد الهداية، وعلمت أهدافه وطموحاته قبل أن يمن الله عز وجل عليه بهذا الدين، وقارنتها بأهدافه وطموحاته بعد أن أصبح مسلماً، عند ذلك تعلم أن الوصول إلى ما وصل إليه الصحابة ليس بمستحيل، لأن كثيراً من الصحابة بدءوا بدايات أصعب بكثير من بدايتنا، فأنت عمرك -مثلاً- ما سجدت لصنم أو عبدت شجرة، وليس كل المسلمين كانوا مدمنين على الخمر قبل الهداية، وليس كثيراً من المسلمين قعد سنوات من عمره لا بأس بها يعذب ويقتل في المؤمنين، ولست من قبيلة بينها وبين قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم عداء طويل وقديم مستحكم يصدك عن الإيمان، فكثير منا كانت بدايتهم أفضل بكثير من بدايات الصحابة، فإذا كان الصحابة الذين بدءوا هذه البدايات الشاقة قد وصلوا إلى هذه الدرجة، فمن البديهي أن الذي بدأ من درجة أفضل يستطيع أن يصل إلى ما وصلوا إليه، لكن بشرط أن يسير في نفس الطريق الذي ساروا عليه، والذي غيَّر الصحابة ونقلهم هذه النقلة الهائلة من عباد الحجر إلى قواد البشر، ومن أذل الناس إلى أعز الأولين والآخرين، ومن أمة لا يأبه بها ولا يعتد برجالها ولا نسائها، بل ولا يعتد بوجودها أصلاً إلى أمة تسود البلاد والعباد، وتبني حضارة ما عرف التاريخ مثلها أبداً، وليس في ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة، بل في سنوات معدودة، هو ببساطة: الإسلام، فالذي غيَّرهم هو كتاب ربنا سبحانه وتعالى، والذي غيرهم هو اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي غيرهم هي هذه الكلمة الخالدة العظيمة والثقيلة جداً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لذلك كان كثيراً جداً ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم للناس في مكة: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا لا إله إلا الله تملكوا العرب والعجم)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي قال الكلمة بصدق ملك العرب والعجم.
وفي مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة لرجحت بهن لا إله إلا الله).
والقرآن الكريم كتاب عجيب ومعجز، لا تنتهي عجائبه ولا تنقضي غرائبه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وتخيل نفسك تحمل كتاباً لا يستطيع أهل الأرض جميعاً على اختلاف علومهم وخبراتهم وفنونهم ومعارفهم وبلدانهم وأزمانهم الإتيان بمثله، وإعجازه متجدداً ومتعدد: إعجاز لغوي، وإعجاز بلاغي، وإعجاز علمي، وإعجاز تاريخي، وإعجاز تشريعي، وإعجاز غيبي، يخبرك عن أشياء لم تحصل بعد وستحصل يوم القيامة، هذا هو إنباء العليم الخبير سبحانه وتعالى، وأنواع مختلفة ومتعددة من الإعجاز.