السبب الثاني: الخروج بالصحابة عن دائرة البشرية، فالناس تعتقد أنهم طراز مختلف من البشر، وخلق آخر ليست لهم النوازع الإنسانية المزروعة داخل نفوسهم، وهذا كلام ليس بصحيح، ودعنا لنتأمل في حقيقة الصحابي، بل في حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نفسه بشر كبقية البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينجب ويحب ويكره ويفرح ويحزن ويتألم، فهو بشر بنص كلام الله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110]، فهو مثلنا تماماً، وإنما يختلف عنا عليه الصلاة والسلام في أنه يوحى إليه، فالرسول بشر نزل عليه الوحي، {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110]، ماذا يعمل؟ ما هو الطريق؟ {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فلا تنشغل عن العمل بأي أعذار، ولا تقل: الرسول رسول ولن أستطيع أن أقلده، لا، فالرسول بشر مثلنا، وهذه لحكمة ظاهرة هي حتى نستطيع أن نقلده، ولو كان غير بشر لكان عندنا عذر في أننا لا نستطيع أن نقلده؛ لذلك سبحانه وتعالى لم ينزل علينا ملكاً بالرسالة، ولو قام ملك بالشرائع لقال الناس: إنما يستطيع ذلك؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيعه، وإذا امتنع الملك عن المعاصي قالوا: إنما يمتنع؛ لأنه ملك، بينما نحن لا نستطيع؛ لذلك لابد أن يكون الرسول من جنس من يرسل إليهم، قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95]، فالأرض ليس عليها ملائكة وإنما عليها بشر، لذلك كان الرسول بشراً؛ لكي نستطيع أن نقلده، وليس من المعقول أن نضيع الحكمة من كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً فلا نقلده، بزعم أنه رسول ونحن غير مرسلين، فإذا كان هذا الكلام يصح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى يصح مع الصحابة الكرام، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً وجب تقليده واتباعه، فعلم يقيناً أن الله عز وجل ما أوجب شيئاً إلا وكنا عليه قادرين.
إذاً: أليس اتباع الصحابة بعد فهم هذه الحقيقة أمراً ممكناً؟ فالصحابة بشر لهم أجساد كأجسادنا، ولهم فطرة كفطرتنا، ولهم غرائز كغرائزنا، ولهم احتياجات كاحتياجاتنا، ومع كل هذه الأمور البشرية والنوازع الإنسانية إلا أنهم قهروا أنفسهم على اتباع الحق وإن كان مراً، وعلى السير في طريق الله عز وجل وإن كان صعباً أو وعراً، وليس معنى ذلك أن أقول كما يقول أولئك الذي قلَّ أدبهم، وانعدم حياؤهم، فقالوا: الصحابة رجال ونحن رجال، وسوغوا لأنفسهم بذلك الطعن في الصحابة وانتقاص بعضهم، أبداً، فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود عكس ذلك بالضبط، فنقول: هم أعظم البشر مطلقاً بعد الأنبياء، وكونهم أعظم البشر لا يلغي ذلك بشريتهم ولا يقلل من شأنهم، وإنما العكس، فيرفع جداً من قيمتهم؛ لأنهم انتصروا على أنفسهم في امتحان عسير ما استطاعت السماوات والأرض والجبال أن يدخلن فيه أصلاً، فحملوا الأمانة التي تبرأت منها السماوات والأرض والجبال، فتقليدهم ممكن، بل وضروري جداً؛ لأنهم بشر نجحوا في امتحان وضعه الله عز وجل، وهو أعلم بقدرات البشر، ومع ذلك فأنا لا أدعي أننا سنكون مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإنما أقول: إنما يجب أن نتخذهم قدوات عملية، قدوات صالحة، وإننا نستطيع بإمكانياتنا البشرية وبمنهج الإسلام الواضح أن نسير في نفس الطريق الذي ساروا فيه، ونصل بإذن الله إلى ما وصلوا إليه، وهذا إذا كنا نريد أن نمشي في هذا الطريق فعلاً.
إذاً: السبب الثاني في إحساس بعض المسلمين أن تقليد الصحابة عسير: هو نسيان هؤلاء المسلمين أن الصحابة بشر لهم كل طبائع البشر، وليسوا خلقاً خاصاً، فليسو جناً ولا ملائكة، وإنما هم بشر نجحوا في حمل الأمانة.
وقبل أن أترك هذه النقطة أحب أن أشير إشارة سريعة، ألا وهي أن بعض الدعاة يساهمون في هذه المشكلة بذكرهم مبالغات شديدة في حق الصحابة، وهذه المبالغات إما أن تكون غير صحيحة أصلاً، ومن باب أولى ألا تذكر هذه المبالغات مطلقاً، وإنما يذكر الصحيح في حق الصحابة والحمد لله يكفي، والصحابة الكرام ليسوا محتاجين إلى المبالغة لكي نعظمهم، فهم عظماء بأحوالهم الحقيقية، فمثلاً: بعض الدعاة يذكر أن سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه قُدِّم له كوب فيه سم عن طريق أحد أعدائه، وحتى يثبت لعدوه أن الله عز وجل لا يضر مع اسمه شيء، قال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، وشرب السم ولم يحصل له شيء، سبحان الله! هذه الرواية غير صحيحة, بل هي مخالفة للسنة؛ لأنه يجب على سيدنا خالد بن الوليد أن يأخذ بالأسباب، ولا ينفع أن يشرب السم ويطلب النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أكل من الشاة المسمومة وأخبر أنها مس