الصحابة كانوا يفهمون هذه الحقائق جيداً، وكانوا يعرفون أنه إذا لم يحصل دعوة، ليس فقط سيخسر الداعية والمدعو، بل المجتمع كله سيخسر، وكذلك فهموا هذا الحديث الرائع للنبي صلى الله عليه وسلم عندما ضرب مثالاً للناس بيِّن فيه حال تلك الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أو تلك التي لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر.
فقد روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة) أي: أن هناك أناساًَ ركبوا سفينة ثم أقرعوا فيما بينهم، فصار بعضهم في أعلى السفينة والآخرين في أسفل السفينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم) فالماء موجود عند الناس الذين كانوا في أعلى السفينة، والذين في أسفلها كلما أرادوا أن يشربوا لا بد أن يصعدوا إلى أعلى السفينة ويمشون من جوارهم، فقد يزعجونهم وهم نائمون، أو وهم مستيقظون، وفي كل وقت أزعجوهم، فعملوا لهم نوعاً من القلق، فأحبوا أن يحلوا هذا الموضوع بحسن نية، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا) يعني: يخرمون في السفينة خرماً من الأسفل حتى يشربون منه! فهم يفكرون في حدود تفكيرهم ونيتهم سليمة، لأنهم لا يريدون أن يضروا الناس الذين في الأعلى، فسيخرمون خرماً في أسفل السفينة ويشربون من ماء البحر مباشرةً، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإن يتركوهم -الناس الذين في الأعلى- وما أرادوا هلكوا جميعاً)، أي: عندما تغرق السفينة سيغرق الذين في الأعلى والأسفل وليس الأسفل فقط، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، فكل السفينة ستنجو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما كان يريد أن يوضحه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، والصحابة قد استوعبوه تماماً، وبدءوا يتحركون في حياتهم بهذا المفهوم.
إذاً: تولد عن هذه المشاعر التي دخلت في نفوس الصحابة إحساس عميق جداً، ألا وهو: إذا كنت مؤمناً لا بد أن تدعو غيرك إلى الخير، وأن تدعو غيرك إلى الإسلام، وأن تدعو غيرك إلى الله عز وجل، وليس مجرد تكثير حسنات وتثقيل ميزان فقط، وإن كان هذا شيئاً مهماً جداً، لكن الأمر أعظم من ذلك، إنها وظيفة إجبارية، فلا ينفع أن لا تصلي وأن لا تزكي، بل لا بد أن تصلي ولا بد أن تزكي، وكذلك لا بد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأن بدونها ستفسد الأفراد وتفسد الأمة، بل وتفسد الأرض بكاملها، ولذلك كان هناك شيء مهم جداً في الدين اسمه: (فتوح إسلامية) فتوح فارس، فتوح الروم، فتوح شمال أفريقيا، فتوح الأندلس، فتوح الهند، وكل منطقة فتحت بالإسلام كان الغرض الأساسي أنك تعلم الناس الدين، والصحابة كانوا يرون هذا الشيء واجباً عليهم، وليس مجرد فضل من فضائل الأعمال.