المفهوم الثالث: أن الأخوة لكل من آمن بالله العظيم رباً، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم نبياً، وبدين الإسلام ديناً.
فهي لمن قرب ولمن بعد، وهي لمن كان عربياً أو كان أعجمياً، لمن كان حديث الإسلام أو سابقاً بالإيمان، لمن تعرف ولمن لا تعرف، فهي لكل واحد من المسلمين ممن يستحق كل حقوق الأخوة، حتى وإن كنت لا تعرفه قبل ذلك، وهذا شمول رائع في مفهوم الأخوة.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يطرق الباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم يوم أن أسلم)، يطرقه وله تاريخ طويل ومؤلم مع المسلمين، تعذيب وإيذاء ومعاداة وكراهية، وفي آخر لحظة من لحظات كفره أراد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا به يطرق الباب فيقول حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: افتحوا له الباب، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ثم دخل عمر وآمن بالله عز وجل.
فانظر مقدار ما حصل في حياة الصحابة، وكيف تحولت الكراهية الشديدة في قلوب المؤمنين التي كانت لـ عمر بن الخطاب إلى حب لـ عمر رضي الله عنه، وكيف رضوا أن يخرجوا خلف عمر بن الخطاب وخلف حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما في صفين إلى الكعبة، وهو لا يزال قبل يوم أو يومين أو ثلاثة يحاربهم، وكيف أن قلوبهم تغيرت وتحولت، فهذه هي معجزة هذا الدين, وأصبح عمر أخاً لكل المسلمين يدافع عنهم ويدافعون عنه.
وهذه هي الأمة التي رضي الله عز وجل عنها، والتي أنعم عليها بهذه النعمة، أي: نعمة الأخوة، ولذا فقد استفاد عمر رضي الله عنه وأرضاه من هذا الدرس الذي فعله معه المؤمنون، وذلك عندما رأى المؤمنين كلهم يحبونه -رغم ما فعله بهم- بمجرد أنه أطلق كلمة الإيمان، وأصبح مقياس الحب والكره في قلب عمر مربوطاً بالإيمان.
وهذا مثال آخر: فعند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: في إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه، وثمامة بن أثال أسلم في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد حياة طويلة من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيروي أبو هريرة عن عمر بن الخطاب أنه قال: لقد كان -يقصد ثمامة بن أثال - والله في عيني أصغر من الخنزير، وإنه في عيني الآن أعظم من الجبل، أي: بعد أن آمن بالله رباً اختلفت النظرة، وأصبح له كل حقوق الأخوة، وأولها الحب والبغض في الله.
وانظر أكثر فقد تحدث هذه العاطفة الأخوية الراقية مع مؤمن لم تره من قبل مطلقاً، فتشعر بهذه العاطفة القوية تجاهه، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرجل هذا لا أحد يعرفه، فقال: يا رسول الله! أصابني الجهد يعني: أنا فقير معدم لا أجد شيئاً آكله، وليس معي نقود لأشتري طعاماً فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى نسائه يطلب أكلاً لهذا الرجل فلم يجد عندهن شيئاً فهذا بيت رئيس المدينة المنورة، وزعيم الأمة الإسلامية في زمانه، ورغم ذلك لا يوجد في بيته طعام يكفي رجلاً واحداً فقط، ورغم ذلك لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم القضية، وقال: أنا ليس معي شيء، ولا أستطيع أن أعطي.
لا، بل شعر بحقيقة الأخوة ولم يتركه، ثم قال: (ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله) فيطلب من الصحابة أن يضيف أحدهم هذا الرجل، والجزاء يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فذهب إلى أهله ودخل على امرأته -لوحده في المرة الأولى- فقال لها: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً يعني: أي شيء عندك أعطيه إياه، فقالت المرأة -مفاجأة قاسية-: والله ما عندي إلا قوت الصبية يعني: ليس عندي أكل الذي يكفي الأطفال فقط، حتى أنا وأنت لا طعام لنا، فقال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم فالرجل أيضاً لم ييأس، فقال لامرأته: عندما يأتي وقت عشاء الأطفال اجعليهم ينامون، ونطعم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فقط ذلك، بل قال: وأطفئي السراج وأريه أنا نأكل، حتى يشعر الضيف أن الطعام كثير، وأننا نأكل معه، وحتى لا يشعر أيضاً بالحرج، وفعلاً ناما جائعين، قال: ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، أي: أن المرأة وافقت زوجها في ذلك، (ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله عز وجل، صنيعكما بضيفكما الليلة)، فكان ذلك أمراً عظيماً من هذا الصحابي، ولمن؟ لشخص لا يعرفه وأصابه الجهد، وهذا هو مفهوم الأخوة عند الصحابة، وليس مهماً أن تعرف الإنسان، بل المهم أن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، ولذا فإنه من أجل هذه الأخوة دون سابق معرفة فإن الله عز وج