كليله ودمنه (صفحة 76)

العقل وأبصر العاقبة فأمن الندامة، ولم يخف الناس ولم يدب إليهم فسلم منهم. فلم أزدد في أمر النسك نظراً، إلا ازددت فيه رغبةً، حتى هممت أن أكون من أهله. ثم تخوفت ألا أصبر على عيش الناسك، ولم آمن إن تركت الدنيا وأخذت في النسك، أن أضعف عن ذلك؛ ورفضت إعمالاً كنت أرجو عائدتها؛ وقد كنت أعملها فأنتفع بها في الدنيا، فيكون مثلي في ذلك مثل الكلب الذي مر بنهرٍ وفي فيه ضلعٌ، فرأى ظلها في الماء، فهوى ليأخذها، فأتلف ما كان معه؛ ولم يجد في الماء شيئاً. فهبت النسك مهابةً شديدةً، وخفت من الضجر وقلة الصبر، وأردت الثبوت على حالتي التي كنت عليها. ثم بدا لي

أن أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها إلا وهو متحول إلى الأذى ومولدٌ للحزن. فالدنيا كالماء الملح الذي يصيبه الكلب فيجد فيه ريح اللحم؛ فلا يزال يطلب ذلك حتى يدمي فاه. وكالحدأة التي تظفر بقطعة من اللحم، فيجتمع عليها الطير، فلا تزال تدور وتدأب حتى تعيا وتتعب؛ فإذا تعبت ألقت ما معها. وكالكوز من العسل الذي في أسفله السم الذي يذاق منه حلاوةٌ عاجلةٌ وآخره موتٌ ذعافٌ، وكأحلام النائم التي يفرح بها الإنسان في نومه، فإذا استيقظ ذهب الفرح. فلما فكرت في هذه الأمور، رجعت إلى طلب النسك، وهزني الاشتياق إليه؛ ثم خاصمت نفسي إذ هي في شرورها سارحةٌ، وقد لا تثبت على أمرٍ تعزم عليه: كقاضٍ سمع من خصمٍ واحدٍ فحكم له، فلما خضر الخصم الثاني عاد إلى الأول وقضى عليه. ثم نظرت في الذي أكابده من احتمال النسك وضيقه؛ فقلت: ما أصغر هذه المشقة في جانب روح الأبد وراحته. ثم نظرت فيما تشره إليه النفس من لذة الدنيا، فقلت: ما أمر هذا وأوجعه، وهو يدفع إلى عذاب الأبد وأهواله! وكيف لا يستحلي الرجل مرارةً قليلةً تعقبها حلاوةٌ طويلةٌ؟ وكيف لا تمر عليه حلاوةٌ قليلةٌ تعقبها مرارةٌ دائمةٌ؟ وقلت: لو أن رجلاً عرض عليه أن يعيش مائة سنةٍ، لا يأتي عليه يومٌ واحدٌ إلا بضع منه بضعةٌ؛ ثم أعيد عليه من الغد؛ غير أنه يشرط له، أنه إذا استوفى السنين المائة، نجا من كل ألم وأذى، وصار إلى الأمن والسرور، كان حقيقاً ألا يرى تلك السنين شيئاً. أسبر ما أخاف ألا أصبر عليه من الأذى والضيق والخشونة في النسك؛ وما يصيب صاحب الدنيا من البلاء؛ وكان عندي أنه ليس شيءٌ من شهوات الدنيا ولذاتها

طور بواسطة نورين ميديا © 2015