وهذا القول الأخير هو الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن الحلف بالآباء كان شائعًا في الجاهلية وصدر الإسلام كالعادات الأخرى مثل شرب الخمر، فنهى الإسلام عن هذه العادات بالتدرج ومنها الحلف بغير الله بدليل حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه حلف باللات والعزى فسأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد» (أخرجه النسائي بإسناد صحيح).

* قال الإمام محيى الدين النووي في شرحه لـ (صحيح مسلم): «قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفلح وأبيه» ليس حلفًا إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجواب المرضي وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم».

وقد نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) كلام النووي هذا وزاد: «إن هذه كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرت على لسانهم (عقري وحلقي) وما أشبه ذلك، أو فيه إضمار اسم الرب. وكأنه قال: ورب أبيه».

ثم قال الحافظ: «وأقوى الأجوبة. .. أن هذا كان قبل النهي، أو أنها كلمة جارية على اللسان كما تقدم في كلام النووي. وكونه منسوخًا أصح لحديث عمر وابنه».

الشبهة الثانية: إن الله أقسم ببعض المخلوقات! كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (الشمس: 1) وقوله {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) وقوله {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي أقسم الله بها.

الجواب: أولًا: هذا من فعل الله والله لا يُسأل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه.

ثانيًا: قسَمُ الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته، فيكون القسم بها الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنًا للثناء على الله - عز وجل - بما تقتضيه من الدلالة على عظمته. وأما نحن، فلا نقسم بغير الله أو صفاته، لأننا منهيون عن ذلك.

قال الشعبي - رحمه الله -: للخالق أن يقسم من خلقه ولا يقسم المخلوق إلا بالخالق، ولأن أقسم بالله فأحنث خير إلى من أقسم بغيره فأبر.

وقال مطرف بن عبد الله - رحمه الله -: إنما أقسم الله بهذه المخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ودلالتها عند الخالق.

الشبهة الثالثة: إن الملائكة حلفت بحياة لوط - عليه السلام - فقالوا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر:72) فهو دليل على جواز حلف المخلوق بالمخلوق.

الجواب: هذا الكلام غير صحيح. قال ابن العربي وابن أبي الجوزاء والشوكاني ـ وأجمع عليه المفسرون ـ: بأن الله سبحانه حلف بحياة نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وليست الملائكة. واستدلوا أيضًا بأن الله حلف، والله - عز وجل - يحلف بما شاء من مخلوقاته.

الشبهة الرابعة: عن خارجة بن الصلت عن عمه بن صحار التميمي أنه مر بقوم فأتوه فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فَارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فَرَقَاهُ بأمِّ القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية، وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئًا فأتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر له ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلْ فلَعَمْري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق (?)» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

الجواب: قياس هذه الكلمة (لعمري) على قول الإنسان (وحياتي) قياس مع فارق، وهو باطل كما هو معروف في الأصول؛ لأن الأخيرة معها واحد من حروف القسم التي أُجمِع على أنها صريحة في اليمين بخلاف تلك ـ أي (لعمري) ـ فإن اللام فيه ليست من أدوات القسم.

بل مثل هذه اللفظة تعتبر جريًا على رسم اللغة تُذكر لتأكيد مضمون الكلام فقط؛ لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به.

بل هذا يجري على ألسنتهم من غير قصد كقولهم: عقري وحلقي، وقولهم: ثكلتك أمك، بل هو غير معلوم وغير مفهوم من كلام أهل العلم والإيمان وأئمة هذا الشأن أنه يمين، بل صريح كلامهم نفي هذا وأنه ليس بقسم.

* في المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن القاسم وغيره عن الإمام مالك - رحمه الله -، قال سحنون: قلت: أرأيتَ قولة (لعمري) أتكون هذه يمينًا» قال: قال مالك: «لا تكون يمينًا».

طور بواسطة نورين ميديا © 2015