كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (لقمان:25)، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئًا، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص:5). ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئًا من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له ندًا وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك. فإذا تبين هذا نعلم أن الإيمان الصحيح غير راسخ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حذر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكروها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن القول بذلك يستلزم ـ بناء على كلامهم ـ أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعدُ في نفوس الصحابة - رضي الله عنهم -، وإنما رسخ بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحدًا يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، قلنا: وكيف ذلك وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟!
الوجه الثالث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما دفنوه في حجرته - صلى الله عليه وآله وسلم - خشية أن يتخذ قبره مسجدًا، كما تقدم عن عائشة - رضي الله عنها -، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم:
فإن قيل بالأول، قلنا فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بَيِّن.
الوجه الرابع: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها.
مثال على ما ذكرنا: عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشْرِفًا إلا سويته. (رواه مسلم).
قال الألباني: رواه أبو الحسن الدينوري في (جزء فيه مجالس من أمالي أبي الحسن القزويني) بإسناد صحيح، وعلقه البخاري، ووصله عبدالرزاق أيضًا في (مصنفه) وزاد: (إنما أقول القبر: لا تُصَلّ إليه).
الجواب: هذا الأثر دليل على إنكار الصحابة - رضي الله عنهم - الصلاة بالقبور. وأنس - رضي الله عنه - لم يعلم أن هناك قبرًا. فلما علم أنه قبر تنحى عنه.
قال الحافظ ابن حجر:. .. الْأَثَر الْمَذْكُور عَنْ عُمَر رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَاب (الصَّلَاة) لِأَبِي نُعَيْمٍ شَيْخ الْبُخَارِيّ وَلَفْظه: «بَيْنَمَا أَنَس يُصَلِّي إِلَى قَبْر نَادَاهُ عُمَر: الْقَبْر الْقَبْر، فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَر، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْر جَازَ الْقَبْر وَصَلَّى» وَلَهُ طُرُق أُخْرَى بَيَّنْتهَا فِي (تَعْلِيق التَّعْلِيق) مِنْهَا مِنْ طَرِيق حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس نَحْوه وَزَادَ فِيهِ: «فَقَالَ بَعْض مَنْ يَلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْر، فَتَنَحَّيْت عَنْهُ».
وَقَوْله: «الْقَبْر الْقَبْر» بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِير».
الشبهة الثامنة: أين كانت عائشة - رضي الله عنها - تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره، في داخل بيتها أم خارجه؟
الجواب: إن عائشة - رضي الله عنها - ممن روى الأحاديث الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا من حكمة الله - عز وجل -. وبهذا يعلم أنها ما كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبور؛ لأنها لو كانت تصلي فيها لكانت مخالفة للأحاديث التي روتها عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا لا يليق بها، وإنما تصلي في بقية بيتها. ومن ادعى خلاف ذلك فليأت بالدليل.
تنبيه: ليس في إقامة القبة على قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين؛ لأن إقامة القبة على قبره لم تكن بوصية منه ولا من عمل أصحابه - رضي الله عنهم - ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخير، إنما كان ذلك من أهل البدع، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» (رواه مسلم)؛ فإذا لم يثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بناء قبة على قبره، ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير، بل ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يبطل ذلك ـ لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.