أحدهما: أن الصيام مجردُ تركِ حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جُبلت على الميل إليها للَّه -عز وجل-، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام، نعم يوجد في الصلاة، إلا أن مدتها لا تطول، فإذا اشتد توقانُ النفس إلى ما تشتهيه، مع قدرتها عليه، ثم تركته للَّه -عز وجل- في موضع لا يطلع عليه إلا اللَّهُ، كان ذلك دليلًا على صحة الإيمان؛ فإن الصائم يعلم أن له ربًا يطَّلع عليه في خلوته، وقد حَرَّم عليه أن يتناول شهواته المجبولَ على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه؛ خوفًا من غضب اللَّه وعقابه، ورغبة فيما عند اللَّه من أجره وثوابه، فشكر اللَّه له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك: "إنه ترك شهوتَه وطعامَه وشرابه من أجلي".

الوجه الثاني: أن الصيام سر بين العبد وربه، لا يَطَّلع عليه غيرُه؛ لأنه مركَّبٌ من نية باطنية لا يطلع عليها إلا اللَّه، وتركٍ لتناول الشهوات التي يُستخفى تناولُها في العادة، ولذا قيل: إنه لا تكتبه الحَفَظَة، وقيل: إنه لا رياء فيه.

وهذا الوجه اختيار أبي عبيد، وغيرِه، وقد يرجع إلى الأول؛ فإن من تركَ ما تدعوه نفسُه إليه للَّه -عز وجل-؛ حيث لا يطلع عليه غيرُ مَنْ أمره ونهاه، دلَّ على صحة إيمانه، واللَّه -سبحانه وتعالى- يحبُّ من عباده أن يعاملوه سرًا بينهم وبينه؛ بحيث لا يطلع على تلك المعاملة سواه، حتى ودَّ بعضُ العارفين لو تمكَّن من عبادةٍ لا تشعر بها الملائكةُ، فضلًا عن بني آدم (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015