وخلاصة القَوْل أَن فِي حمل الحَدِيث على أحد الْوُجُوه الْمَذْكُورَة جمعا بِعَين الْأَحَادِيث وتأليفاً لسنن كَثِيرَة نذْكر فِيهَا مَا يَلِي:
أَولا: مُوَافَقَته للنَّهْي الْخَاص من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن زِيَارَة الْقُبُور كَمَا فِي أَحَادِيث اللَّعْن وَمَا فِي مَعْنَاهَا كحديثي عبد الله بن عَمْرو وَعلي رَضِي الله عَنْهُم.
ثَانِيًا: أَن فِي حمل الحَدِيث على ذَلِك جمعا بَينه وَبَين قَوْلهَا الْمُتَأَخر قطعا على ذَلِك - لَو شهدتك لما زرتك- وَإِلَّا لما كَانَ فِي قَوْلهَا هَذَا كَبِير معنى.
ثَالِثا: مُوَافَقَته لحَال الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم حَيْثُ لم ينْقل فِيمَا نعلم أَن نِسَاءَهُمْ كن يزرن الْمَقَابِر، وَلَو كَانَ شَيْء من ذَلِك لنقل إِلَيْنَا كَمَا نقل إِلَيْنَا سَائِر سيرهم وَمَا جرى بَينهم من القضايا والمناظرات فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، فَلَمَّا لم ينْقل إِلَيْنَا شَيْء من ذَلِك دلّ على أَنهم آمنُوا بِالنَّهْي وأقروه على ظَاهره كَمَا جَاءَ من غير بحث وَلَا نظر، وَهَذَا هُوَ مَذْهَب أهل الحَدِيث وأئمة التَّحْقِيق كثر الله سوادهم، قَالَ الإِمَام أَبُو الْعَبَّاس بن تَيْمِية رَحمَه الله: "وَمَا علمنَا أَن أحدا من الْأَئِمَّة اسْتحبَّ لَهُنَّ زِيَارَة الْقُبُور وَلَا كَانَ النِّسَاء على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وخلفائه الرَّاشِدين يخْرجن إِلَى زِيَارَة الْقُبُور كَمَا يخرج الرِّجَال" اهـ بِلَفْظِهِ.
رَابِعا: أَن الْمحرم لَا بُد أَن يشْتَمل على مفْسدَة مَحْضَة أَو راجحة وزيارة النِّسَاء للقبور تشْتَمل على مفاسد كَثِيرَة فِي الْغَالِب فالتحريم إِذا ألصق بأصول الْفَرْع ومقاصده.
خَامِسًا: أَن أَحَادِيث النَّهْي تَضَمَّنت حكما منطوقاً بِهِ، وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد مُسلم صَحِيح غير صَرِيح فِيمَا اسْتدلَّ بِهِ عَلَيْهِ، إِذْ لم تقل مَاذَا أَقُول إِذا زرت الْقُبُور بل قَالَت مَا أَقُول لَهُم، وَهَذَا يحْتَمل الزِّيَارَة وَغَيرهَا. قَالَ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي كِتَابه الِاعْتِبَار: "الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ من وُجُوه التَّرْجِيح أَن يكون الحكم الَّذِي تضمنه أحد الْحَدِيثين منطوقاً بِهِ وَمَا تضمنه الحَدِيث الآخر يكون مُحْتملا" اهـ. أَي فَيجب تَقْدِيم مَا هُوَ مَنْطُوق بِهِ.
سادساً: أَن عَامَّة الْعلمَاء قد رجحوا الدَّلِيل الحاظر كَحَدِيث اللَّعْن فِي هَذَا الْمقَام على دَلِيل الْإِبَاحَة كَحَدِيث عَائِشَة عِنْد مُسلم على احْتِمَاله، فَمن ادّعى بعد ذَلِك أَنه أُبِيح بعد الْمَنْع فَعَلَيهِ الْبَيَان لاسيما وَقد ذكر هَذَا الْوَعيد الشَّديد فِي جَانب الْمَنْع فَالْمَسْأَلَة إِذا لَا مسرح فِيهَا للِاجْتِهَاد والله أعلم.
سابعاً: أَن مِمَّا يرجح بِهِ أحد الْحَدِيثين على الآخر كَثْرَة الْعدَد فِي أحد الْجَانِبَيْنِ وهى مُؤثرَة فِي بَاب الرِّوَايَة لِأَنَّهَا تقرب مِمَّا يُوجب الْعلم وَهُوَ التَّوَاتُر كَمَا حكى ذَلِك الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فِي اعْتِبَاره.