وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَهُوَ إفْنَاءٌ وَإِمَاتَةٌ فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّهُ حَيَاةٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ فَيَبْقَى حَيًّا وَيَسْلَمُ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ عَنْهُ فَيَبْقَى حَيًّا فَيَصِيرُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ بَقَاءً عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا صَارَ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَصَارُوا كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَسْلَمُ لَهُمْ حَيَاةٌ إلَّا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاتِلُ فَيَسْلَمُ بِهِ حَيَاةُ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَالْعَشَائِرِ فَصَارُوا أَحْيَاءً مَعْنًى وَهَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ جَامَعَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنْ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَقَوْلُهُمْ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ لِلُزُومِ التَّنَاقُضِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ إلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ لَا يُسَمَّى اعْتِبَارًا وَلَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ بِوَجْهٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ الْآيَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلَهَا لَصَارَ مَعْنَاهَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَلَا تَحْكُمُوا بِهَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي حَقِّ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَبُطْلَانُهُ ظَاهِرٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا ضَرَبَ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَلَى ذَنْبٍ، ثُمَّ قَالَ الْآخَرُ اعْتَبِرْ بِهِ فُهِمَ مِنْهُ التَّسْوِيَةُ فِي الْحُكْمِ لَا الْمَنْعُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُمْ قَدْ خُصَّ مِنْهُ كَذَا فَلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعِيَّةِ ضَعِيفٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ تِلْكَ الصُّوَرَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا النَّصِّ لِيَثْبُتَ التَّخْصِيصُ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِبَارِ لَا يَتَنَاوَلُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاعْتِبَارِ بِدُونِهَا لَا مَا وُجِدَ فِيهِ نَصٌّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ رَدِّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ إثْبَاتُ حُكْمِ النَّظِيرِ لَهُ فَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي رَدِّهِ إلَى النَّظِيرِ وَلَا الْأَقْيِسَةَ الْمُتَعَارِضَةَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهَا لِتَسَاقُطِهَا بِالتَّعَارُضِ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَخْصِيصُهَا مِنْهُ فَبَقِيَ النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ مُوجِبًا لِلْيَقِينِ كَمَا كَانَ، عَلَى أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَارَ ظَنِّيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَأَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُوهُ أَصْلًا وَالْجَوَابُ مَا نُبَيِّنُ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ إلَى آخِرِهِ.
1 -
قَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فَالْقِصَاصُ إفْنَاءٌ وَتَفْوِيتٌ لِلْحَيَاةِ، وَقَدْ جُعِلَ مَكَانًا وَظَرْفًا لِلْحَيَاةِ فِي هَذَا النَّصِّ وَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى بِشَرْعِهِ وَاسْتِيفَائِهِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ شَرْعِهِ فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ لِلْقَتْلِ لَمَّا تَأَمَّلَ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَصَدَّهُ أَيْ مَنَعَهُ ذَلِكَ التَّأَمُّلُ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ الْقَتْلُ فَسَلِمَ هُوَ مِنْ الْقَوَدِ وَسَلِمَ صَاحِبُهُ مِنْ الْقَتْلِ فَيَصِيرُ أَيْ شَرْعُ الْقِصَاصِ يَعْنِي مَشْرُوعِيَّتُهُ حَيَاةً لَهُمَا أَيْ الْقَاصِدِ الْقَتْلَ وَالْمَقْصُودِ قَتْلُهُ بَقَاءً عَلَيْهَا أَيْ بَقَاءَهُمَا عَلَى الْحَيَاةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيْهِمَا أَيْ بَقَاءَ حَيَاتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَلَوْ قِيلَ إبْقَاءً لَكَانَ أَحْسَنَ وَإِبْقَاءُ الْحَيَاةِ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ يُسَمَّى إحْيَاءً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الْخِطَابُ لِكَافَّةِ النَّاسِ، وَأَمَّا فِي اسْتِيفَائِهِ أَيْ كَوْنُهُ حَيَاةً بِاعْتِبَارِ اسْتِيفَائِهِ فَلِأَنَّ الْقَاتِلَ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَيَقْصِدُ قَتْلَهُمْ مُسْتَعِينًا فِي ذَلِكَ بِأَمْثَالِهِ مِنْ السُّفَهَاءِ إزَالَةً لِلْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْوَلِيُّ الْقِصَاصَ عَنْهُ انْدَفَعَ شَرُّهُ عَنْهُ وَعَنْ عَشِيرَتِهِ فَصَارَ أَيْ الِاسْتِيفَاءُ إحْيَاءً لَهُمْ مَعْنًى وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا قُتِلَ مُحِيَ أَثَرُ الْقَتْلِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ فَيَبْقَى غَيْرَ مُعَذَّبٍ بِهِ فَيَكُونُ إحْيَاءً لَهُ بِدَفْعِ سَبَبِ الْعَذَابِ عَنْهُ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ لِلْقَتَلَةِ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ الْحَيَاةِ إمَّا لِلتَّعْظِيمِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ بِالْوَاحِدِ الْجَمَاعَةَ وَبِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ فَتَفُورُ الْفِتْنَةُ وَيَقَعُ التَّقَاتُلُ بَيْنَهُمْ فَبِشَرْعِ الْقِصَاصِ انْقَطَعَتْ الْفِتْنَةُ وَانْقَطَعَ التَّقَاتُلُ فَكَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ عَظِيمَةٌ أَوْ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ بِارْتِدَاعِ الْقَاطِعِ عَنْ الْقَتْلِ تَحْصُلُ حَيَاةٌ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي فَوَجَبَ التَّنْكِيرُ وَامْتَنَعَ التَّعْرِيفُ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ كَانَتْ مِنْ الْأَصْلِ بِالْقِصَاصِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ