فَأَمَّا صِفَةُ الِاجْتِهَادِ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ أَمَّا فِي أُصُولِ الدِّينِ الْمُمَهَّدَةِ مِثْلُ نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ فَعَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إلَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ إلَّا فِيمَا يُسْتَغْنَى عَنْ الرَّأْيِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوِفَاقُهُ لِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فَقَالَ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ أُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ، وَمُطْلَقُ الْأُمَّةِ تَتَنَاوَلُ أُمَّةَ الْمُتَابَعَةِ دُونَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو النَّاسَ إلَى هَوَاهُ وَلَكِنَّهُ مَشْهُورٌ بِهِ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِيمَا يُضَلَّلُ هُوَ فِيهِ: لَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضَلِّلُ لِمُخَالَفَتِهِ نَصًّا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، وَكُلُّ قَوْلٍ كَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ: وَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَحْكَامِ.
قَالَ: وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْهَوَى، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُظْهِرٍ لَهُ فَالْجَوَابُ هَكَذَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُظْهِرًا لِهَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لَا يُوجَدُ هَا هُنَا فَإِنَّهُ يُقْبَلُ لِانْتِفَاءِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ عَلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْمٌ عَظَّمُوا الذُّنُوبَ حَتَّى جَعَلُوهَا كُفْرًا لَا يَهْتَمُّونَ بِالْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ الذَّنْبُ نَفْسُهُ كُفْرٌ، وَقَدْ كَفَّرُوا أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَارُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهَا بِنَقْلِهِمْ فَكَيْفَ يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَأَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ ذَلِكَ إذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ كُفْرَ النَّاقِلِينَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِ الْجُهَّالِ فِي الْإِجْمَاعِ
قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ خَالَفَ الْمُبْتَدِعُ فِي مَسْأَلَةٍ بَعْدَ مَا حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ، فَإِنْ تَابَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَيْهَا فِي حَالِ كُفْرِهِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى خِلَافِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ كُلِّ الْأُمَّةِ، وَكَانَ الْمُجْمِعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلَّ الْأُمَّةِ دُونَهُ فَصَارَ كَمَا لَوْ خَالَفَ كَافِرٌ جَمِيعَ كَافَّةِ الْأُمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ: (فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَشَرْطٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ) إنَّ الشَّرِيعَةَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يَشْتَرِكُ فِي دَرْكِهِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَأْيٍ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِثْلُ أُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ أَيْ أُصُولِهَا، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا حَتَّى لَوْ فُرِضَ خِلَافُ بَعْضِ الْعَوَامّ فِيهِ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ
وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِدَرْكِهِ الْخَوَاصُّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ كَتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ فَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْخَوَاصُّ فَالْعَوَامُّ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَا يُضْمِرُونَ فِيهِ خِلَافًا فَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ دُونَ غَيْرِهِمْ حَتَّى لَوْ خَالَفَ بَعْضُ الْعَوَامّ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ بِخِلَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِطَلَبِ الصَّوَابِ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ آلَةُ هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي نُقْصَانِ الْآلَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْخِطَابِ إلَّا عِصْمَةُ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْعَصْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْعَوَامِّ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا قَالَ قَوْلًا عُلِمَ أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ جَهْلٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ عَامِّيٍّ عَاقِلٍ؛ لِأَنَّهُ يُفَوَّضُ مَا لَا يَدْرِي إلَى مَنْ يَدْرِي وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ فُرِضَتْ، وَلَا وُقُوعَ لَهَا أَصْلًا كَذَا ذَكَرَهُ