وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْقَطْعُ لَفْظٌ خَاصٌّ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، فَأَنَّى يَكُونُ إبْطَالُ عِصْمَةِ الْمَالِ عَمَلًا بِهِ فَقَدْ وَقَعْتُمْ فِي الَّذِي أَبَيْتُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَلَا يُرَى أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِجَانِبِ الْقِلَّةِ بِالنَّفْيِ فَقَالَ لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ دُونَ الْكَثْرَةِ إذْ لَمْ يَقُلْ وَلَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَيَكُونُ الْتِزَامُ الْأَكْثَرِ امْتِثَالًا بِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا مَحَالَةَ كَالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ فِي الزَّكَاةِ بِخِلَافِ جَانِبِ النُّقْصَانِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلِامْتِثَالِ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ الْعَبْدِ امْتِثَالٌ بِهِ أَيْ بِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ، فَمَنْ جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ الْإِيجَابِ وَالتَّرْكِ فِي الْمَهْرِ أَيْ إثْبَاتَ الْمَهْرِ وَتَرْكَهُ كَمَا جَعَلَهُ مَالِكٌ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَا إنْ شَاءَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ فِي الْعَقْدِ أَوْ سَكَتَ فَيَجِبُ الْمَهْرُ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ؛ وَإِنْ شَاءَ نَفَاهُ فَيَصِحُّ نَفْيُهُ أَيْضًا وَيُؤَثِّرُ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ كَنَفْيِ الثَّمَنِ عَنْ الْبَيْعِ يَصِحُّ وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ أَيْ فِي الْمَهْرِ كَمَا جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: إيجَابُ أَصْلِهِ بِالْعَقْدِ وَبَيَانُ مِقْدَارِهِ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الزَّوْجَيْنِ كَانَ إبْطَالًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الِاخْتِيَارِ وَأَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الْإِيجَابِ أَيْ مَنْ جَعَلَ إلَى الْعَبْدِ اخْتِيَارَ الْإِيجَابِ وَاخْتِيَارَ التَّقْدِيرِ.
قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ، رَفَعَهُمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ وَفِيمَا فُرِضَ عَلَيْكُمْ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أَيْ حُكْمُهُمَا أَوْ الْخَبَرُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وَدُخُولُ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْدِيَهُمَا، وَنَحْوُهُ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكْتَفَى بِتَثْنِيَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ عَنْ تَثْنِيَةِ الْمُضَافِ، وَأُرِيدَ بِالْيَدَيْنِ الْيَمِينَانِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدُ اللَّهِ وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمْ جَزَاءً وَنَكَالًا مَفْعُولٌ لَهُمَا كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَذَكَرَ فِي التَّيْسِيرِ إنَّمَا جَمَعَ الْأَيْدِي؛ لِأَنَّ السَّارِقَ اسْمُ جِنْسٍ، وَكَذَا السَّارِقَةُ أُرِيدَ بِهِمَا الْجَمْعُ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ الْأَيْدِي؛ لِأَنَّهَا أَفْرَادٌ مُضَافَةٌ إلَى الْجَمْعِ وَقَالَ أَيْدِيَهُمَا عَلَى التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَيْدِيهِمْ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ وَاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَائِعٌ لُغَةً كَالْجَمْعِ بَيْنَ تَذْكِيرِ الْمَعْنَى وَتَأْنِيثِ اللَّفْظِ، وَفِي عَيْنِ الْمَعَانِي وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَالصَّوَابُ أَيْمَانَهُمْ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ أَيْمَانَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ وَالْعُضْوُ أَنْ يُجْمَعَ مِنْ اثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اثْنَانِ مِنْ اثْنَيْنِ، وَاعْلَمْ بِأَنَّ عِنْدَنَا حُكْمُ السَّرِقَةِ قَطْعٌ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ السَّارِقِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَسْرُوقُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْقَطْعِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ لَا يَضْمَنُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ خَمْرًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقَطْعُ لَا يَنْفِي ضَمَانَ الْعَيْنِ عَنْهُ بَلْ الْعَيْنُ فِي حَقِّ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَطْعٌ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى وَحَدِّ الزِّنَا قَالَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقَطْعِ بِقَوْلِهِ {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَلَمْ يَنْفِ الضَّمَانَ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ الْإِبَانَةُ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّمَانِ وَانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ أَصْلًا، وَلَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، اسْمًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَمَقْصُودًا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ جَبْرًا لِلْمَحَلِّ وَالْآخَرُ شُرِعَ زَاجِرًا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَمَحَلًّا؛ لِأَنَّ مَحَلَّ أَحَدِهِمَا الْيَدُ وَمَحَلَّ الْآخَرِ الذِّمَّةُ، وَسَبَبًا؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَحَدِهِمَا الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَسَبَبَ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ وَاسْتِحْقَاقًا، فَإِنَّ مُسْتَحِقَّ الْقَطْعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُسْتَحِقُّ الْآخَرِ الْعَبْدُ وَإِذَا