وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي بَذْلِ شَطْرِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَخَذَ بِرَأْيِهِمَا وَكَذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْيِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ دُونَهُمْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ، وَالْجِهَادُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ وَكَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قُولَا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا وَلَا يَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ وَإِنَّمَا الشُّورَى فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ خَاصَّةً أَلَا يُرَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ أَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يُعْصَمُ عَنْ الْقَرَارِ عَلَى الْخَطَأِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ اجْتِهَادُهُ وَرَأْيُهُ صَوَابًا بِلَا شُبْهَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى كَذَا قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْضَى ذَلِكَ الْحُكْمَ بَعْدَ الْعِتَابِ بِقَوْلِهِ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] .
قَوْلُهُ (وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ) رُوِيَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا ضَاقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَرْبِ الْأَحْزَابِ وَكَانَ فِي الْكُفَّارِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَوْنًا لَهُمْ رَئِيسُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عُيَيْنَةَ وَقَالَ: ارْجِعْ أَنْتَ وَقَوْمُك وَلَك ثُلُثُ ثِمَارِ مَدِينَةٍ فَأَبَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَهَا فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ الْأَنْصَارَ وَفِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُهُمَا رَئِيسُ الْأَوْسِ وَالْآخَرُ رَئِيسُ الْخَزْرَجِ فَقَالَا هَذَا شَيْءٌ أَمَرَك اللَّهُ بِهِ أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته مِنْ نَفْسِك فَقَالَ لَا بَلْ رَأْيٌ رَأَيْته مِنْ عِنْدِ نَفْسِي فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ لَا نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إلَّا السَّيْفُ وَفَرِحَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ، فَإِذَا ثَبَتُّمْ فَذَاكَ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِينَ جَاءُوا بِالصُّلْحِ اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَكَذَلِكَ أَخَذَ بِرَأْيِ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ النُّزُولَ فَقَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَوْ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ إنْ كَانَ عَنْ وَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ، فَإِنِّي أَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى الْمَاءِ وَنَأْخُذَ الْحِيَاضَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِهِ وَنَزَلَ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ الْمُشَاوَرَةُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ» نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ شَاوَرَهُمْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ لِمَا قُلْنَا: إنَّهَا مُشَاوَرَةٌ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَأَمَّا الْمُشَاوَرَةُ فِي بَذْلِ شَطْرِ الثِّمَارِ وَالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَصِحُّ نَظِيرًا لَهُ؛ لِأَنَّهَا مُشَاوَرَةٌ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ فَلَا تَصْلُحُ إلْزَامًا عَلَى الْخَصْمِ وَظَنِّي أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَكَمَا شَاوَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَقَعَتْ زَائِدَةً مِنْ النَّاسِخِ فَبِدُونِهَا يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ فَيَصِيرُ الْمُشَاوَرَةُ فِي الْأُسَارَى نَظِيرًا لِقَوْلِهِ شَاوَرَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَمُشَاوَرَةُ السَّعْدَيْنِ وَالْأَخْذُ بِرَأْيِ أُسَيْدَ نَظِيرَيْنِ لِقَوْلِهِ: مِثْلُ مُشَاوِرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، وَكَذَا رَأَيْت مَكْتُوبًا بِدُونِ الْوَاوِ فِي نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْكُرْدِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى مَنْ قَبْلَهُ أَيْضًا.
(قَوْلُهُ وَقَدْ كَانَ يَقْطَعُ الْأَمْرَ) أَيْ الشَّأْنَ دُونَهُمْ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِثْلُ مُشَاوَرَتِهِ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ يَعْنِي كَانَ يَحْكُمُ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ الْأَمْرَ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ إذَا كَانَ فِيهِ وَحْيٌ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَبْطَلَ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ بِإِثْبَاتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أُمُورِ الْحَرْبِ وَسَائِرِ الْحَوَادِثِ فِيمَا إذَا وُجِدَ فِيهَا الْوَحْيُ وَفِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ فَقَالَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْوَحْيُ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِذَا وُجِدَ الْوَحْيُ يَقْطَعُ الْأَمْرَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَالْتِفَاتٍ إلَى رَأْيِ أَحَدٍ فَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ إبْطَالُ الْفَرْقِ بِقَوْلِهِ وَالْجِهَادُ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَرْقٌ، فَإِذَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِالرَّأْيِ جَازَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا
وَقَوْلُهُ: وَلَا تَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ شَاوَرَ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ يَعْنِي وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ وَلَا تَحِلُّ الْمَشُورَةُ مَعَ قِيَامِ الْوَحْيِ بَلْ تَحِلُّ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا شَاوَرَهُمْ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَفِي قَوْلِهِ خَاصَّةً إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَشُورَةُ لِتَطْبِيبِ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ خَاصَّةً قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -