وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24] فَإِنَّمَا أَحَلَّ الِابْتِغَاءَ بِالْمَالِ، وَالِابْتِغَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ وُضِعَ لِمَعْنًى مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ وَالطَّلَبُ بِالْعَقْدِ يَقَعُ فَمَنْ جَوَّزَ تَرَاخِي الْبَدَلِ عَنْ الطَّلَبِ الصَّحِيحِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ فِعْلُ الْوَطْءِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إبْطَالًا فَبَطَلَ بِهِ مَذْهَبُ الْخَصْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ: وَصَلَ الطَّلَاقَ بِالِافْتِدَاءِ بِالْمَالِ، وَهُوَ الْخُلْعُ بِحَرْفِ الْفَاءِ، وَهُوَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَكُونُ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى صِحَّةِ إيقَاعِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ الْخُلْعِ مُتَّصِلًا بِهِ، وَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ، فَمَنْ وَصَلَهُ أَيْ الطَّلَاقَ أَوْ قَوْلُهُ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بِالرَّجْعِيِّ يَعْنِي بِأَوَّلِ الْآيَةِ لَا يَكُونُ وَصْلُهُ عَمَلًا بِالْفَاءِ وَلَا بَيَانًا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مُشْكِلٌ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ: هَذِهِ الْآيَةُ رَجَعَتْ إلَى الْآيَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ تَطْلِيقَةً أُخْرَى، وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْمَذْكُورَ الْمَوْصُوفَ بِالتَّكْرَارِ فِي قَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَاسْتَوْفَى نَصًّا بِهِ أَوْ؛ فَإِنْ طَلَّقَهَا مَرَّةً ثَالِثَةً بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ فَوَصَلَاهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى.
وَكَذَا فِي عَامَّةِ التَّفَاسِيرِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ؛ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] إمَّا بَيَانُ مُبَاشَرَةِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ إنْ كَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا ثَابِتَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] عَلَى مَا رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ «- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ أَوْ بَيَانُ الشَّرْعِيَّةِ» كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ يَجِبُ وَصْلُهُ بِأَوَّلِ الْآيَةِ لَا بِالْخُلْعِ، فَلَا يَبْقَى التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَيْفَ وَالتَّرْتِيبُ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ فِي الْحُكْمِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ لَمَا تُصُوِّرَ شَرْعِيَّةُ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ الْخُلْعِ عَمَلًا بِالْفَاءِ وَأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا الْخُلْعُ مُتَصَوِّرٌ وَمَشْرُوعٌ قَبْلَ الطَّلْقَتَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُوجِبَ حَرْفِ الْفَاءِ سَاقِطٌ، وَأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ التَّرْتِيبُ وَالْوَصْلُ كَمَا هُوَ مُوجِبُ حَرْفِ الْفَاءِ لَصَارَ عَدَدُ الطَّلَاقِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ مُرَتَّبَةً عَلَى الْخُلْعِ وَالْخُلْعَ مُرَتَّبًا عَلَى الطَّلْقَتَيْنِ وَذَلِكَ خِلَافُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ فِي طَرِيقَتِهِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ بَيَانَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة: 230] لَا فِي قَوْلِهِ {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وَأَنَّ قَوْلَهُ {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] يَنْصَرِفُ إلَى الطَّلْقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ لَا أَنَّهُ بَيَانُ طَلْقَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ تَطْلِيقٌ آخَرُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ فِي الطَّلَاقَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى الِافْتِدَاءِ الثَّالِثَةَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثِ وَيَبْقَى النَّصُّ حُجَّةً مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ سِيَاقِ النَّظْمِ وَمُخَالَفَتِهِ لِأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَسْتَقِيمُ هَهُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْخُلْعُ لَا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ، فَإِذَا كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَمَسَّكَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْمُخْتَلِعَةُ يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» وَبِالْمَعَانِي الْفِقْهِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أَيْ سِوَى هَؤُلَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنْ تَبْتَغُوا مَفْعُولٌ لَهُ بِمَعْنَى بَيَّنَ لَكُمْ مَا يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُمُ إرَادَةَ أَنْ يَكُونَ ابْتِغَاؤُكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ تَبْتَغُوا بَدَلًا مِمَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَالْأَمْوَالُ الْمُهُورُ، مُحْصِنِينَ فِي حَالِ كَوْنِكُمْ نَاكِحِينَ غَيْرَ زَانِينَ لِئَلَّا تُضَيِّعُوا أَمْوَالَكُمْ وَتُفْقِرُوا