مِنْ الشَّرَائِعِ وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ لِلْعِبَادِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ غَيْبًا عَنْهُمْ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إنَّمَا نُجَوِّزُ النَّسْخَ فِي حُكْمٍ مُطْلَقٍ عَنْ ذِكْرِ الْوَقْتِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا وَيَحْتَمِلُ الْبَقَاءَ وَالْعَدَمَ عَلَى السَّوَاءِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاتِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ بَلْ الْبَقَاءُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ الْعَدَمِ بِدَلِيلِهِ لَا أَنَّ الْبَقَاءَ بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْبَقَاءَ لُغَةً فَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ النَّسْخِ مُتَعَرِّضًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ إلَّا ظَاهِرًا بَلْ كَانَ بَيَانًا لِلْمُدَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْبٌ عَنَّا وَهِيَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ بِلَا شُبْهَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِيجَادِ أَنَّ حُكْمَهُ الْحَيَاةُ وَالْوُجُودُ لَا الْبَقَاءُ بَلْ الْبَقَاءُ لِعَدَمِ أَسْبَابِ الْفَنَاءِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْمٍ إلَّا بِمُخَصِّصٍ فَلَا يَثْبُتُ وَالتَّقْيِيدُ بِالِاحْتِمَالِ بَلْ يُحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا يُقَالُ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِلْمِيَّةٌ فَلَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَمْرُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ تَقْيِيدٌ وَتَخْصِيصٌ فَوَجَبَ إجْرَاؤُهُ وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ الِاحْتِمَالُ الَّذِي ذَكَرْتُمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ نَاشِئٍ عَنْ دَلِيلٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَخْرُجُ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ إلَى الظَّنِّ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ صَارَ الدَّلِيلُ ظَنِّيًّا بِكُلِّ احْتِمَالٍ لَمْ يَبْقَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لِتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالِ إلَى جَمِيعِ الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ رَفْعَ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ نَسْخٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ فَالْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ ثَبَتَا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ بِالشَّرَائِعِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ رَفْعُهَا رَفْعًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَكَانَ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ، فَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَلَا مَحِيصَ عَنْهُ إنْ ثَبَتَ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي ذَكَرُوهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ قَوْلُهُ (وَالدَّلِيلُ الْمَعْقُولُ أَنَّ النَّسْخَ) كَذَا يَعْنِي لَوْ وَقَّتَ الشَّارِعُ حُكْمًا فِي ابْتِدَاءِ شَرْعِهِ إلَى غَايَةٍ بِأَنْ قَالَ شَرَعْت الْحُكْمَ الْفُلَانِيَّ إلَى الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ لَصَحَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ قُبْحٍ وَبَدَاءٍ، فَكَذَا إذَا بَيَّنَ أَمَدَهُ مُتَرَاخِيًا عَنْ زَمَانِ شَرْعِهِ بِالنَّسْخِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي هِيَ غَيْبٌ عَنْ الْعِبَادِ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَدَاءِ فِي شَيْءٍ.

وَبَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ أَنَّ النَّسْخَ بَيَانُ الْمُدَّةِ لَا بَدَاءٌ أَنَّا إنَّمَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي حُكْمٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَقَّتًا بَعْدَمَا شُرِعَ وَأَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا وَيَحْتَمِلُ الْبَقَاءَ بَعْدَمَا شُرِعَ وَالْعَدَمَ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِلِاحْتِمَالَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ تَوْقِيتٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَاضِي وَإِعْدَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاتِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ أَيْ الْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَقَائِهِ أَصْلًا بَلْ الْبَقَاءُ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ فَكَانَ ثَابِتًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُهُ وَهُوَ الْأَمْرُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْبَقَاءِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ وَالِائْتِمَارِ لَا لِغَيْرِهِ وَكَذَا الْوُجُودُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلْبَقَاءِ وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَا يَكُونُ الْبَقَاءُ مِنْ مَوَاجِبِ الْأَمْرِ السَّابِقِ بِوَجْهٍ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ دَلِيلُ النَّسْخِ مُتَعَرِّضًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ أَيْ لَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا لَهُ بِوَجْهٍ لِاقْتِصَارِ عَمَلِهِ عَلَى حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ إلَّا ظَاهِرًا أَيْ إلَّا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَهُوَ تَقَرُّرُ بَقَائِهِ فِي أَوْهَامِنَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ لَوْلَا النَّاسِخُ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ بِلَا شُبْهَةٍ أَيْ بَيَانُ الْمُدَّةِ بِالنَّسْخِ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ نِهَايَتَهَا لَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ؛ لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الْأَحْكَامِ لِمَنَافِعَ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ إذْ الشَّارِعُ مُنَزَّهٌ عَنْ نَفْعٍ وَضَرَرٍ يَعُودُ إلَيْهِ وَقَدْ يَتَبَدَّلُ الْمَنْفَعَةُ بِتَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْحَكِيمُ الْقَدِيرُ جَلَّ جَلَالُهُ فَكَانَ تَبْدِيلُ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى تَبْدِيلِ الْأَحْوَالِ مِنْ بَابِ الْحِكْمَةِ لَا مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ قَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْيَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لِلْإِيجَابِ لَا لِلْبَقَاءِ أَوْ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَيْ إحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ بِالْأَمْرِ.

وَشَرْعُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ إحْيَاءِ الشَّخْصِ وَإِيجَادِهِ مِنْ الْعَدَمِ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَحْيَاءِ الْحَيَاةُ، وَأَثَرُ الْإِيجَادِ الْوُجُودُ لَا الْبَقَاءُ بَلْ الْبَقَاءُ بِعَدَمِ أَسْبَابِ الْفَنَاءِ بِإِبْقَاءٍ هُوَ غَيْرُ الْإِيجَادِ وَكَأَنَّ " أَوْ " سَقَطَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015