وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ أَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلِأَنَّهُ قَالَ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ وَاضِحٌ، وَقَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60]

ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمُجَادَلَتِهِمْ بِالْبَاطِلِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ لَهُمْ وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ اللِّسَانِ فَأَعْرَضَ عَنْ جَوَابِهِمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى تَعَنُّتَهُمْ فِي مُعَارَضَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الْآيَةَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يَكُونُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ حَسُنَ مَوْقِعُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَتَعَنَّتُ وَهُوَ نَظِيرُ انْتِقَالِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فِي مُحَاجَّةِ اللَّعِينِ عَنْ التَّمَسُّكِ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ إلَى قَوْلِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] لِتَعَنُّتِ الْقَوْمِ وَمُكَابَرَتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْحُجَّةِ الْأُولَى وَدَفْعًا لِتَلْبِيسِ اللَّعِينِ لَا أَنَّهُ انْتِقَالٌ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ هَذَا ابْتِدَاءُ بَيَانٍ وَدَفْعٌ لِمُعَانَدَةِ الْخَصْمِ لَا أَنَّهُ تَخْصِيصٌ حَقِيقَةً وَمِنْهَا إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قِصَّةِ ضَيْفِ الْخَلِيلِ وَإِخْبَارِهِمْ إيَّاهُ بِإِهْلَاكِ قَرْيَةِ لُوطٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] وَهِيَ سَدُومُ وَالْأَهْلُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ لُوطًا وَأَهْلَهُ كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُمْ مِنْ سُكَّانِ الْقَرْيَةِ وَلِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] ثُمَّ خُصَّ مِنْهُ لُوطٌ وَأَهْلُهُ بَعْدَ مَا قَالَ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32] بِقَوْلِهِمْ {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ انْفِصَالِ الْمُخَصِّصِ عَنْ الْعَامِّ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا أَيْ احْتِجَاجُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا كَاحْتِجَاجِهِمْ بِالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

لِاتِّصَالِ الْبَيَانِ أَيْ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ بِهِ أَيْ بِهَذَا الْعَامِّ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] أَيْ كَافِرِينَ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ يُذْكَرُ لِلتَّعْلِيلِ كَمَا يُقَالُ اُقْتُلْهُ إنَّهُ مُحَارِبٌ وَارْجُمْهُ إنَّهُ زَانٍ وَلَمَّا عَلَّلَ إهْلَاكَهُمْ بِكَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ يَكُونُ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِلُوطٍ وَأَهْلُهُ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ وَاضِحٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ كَانَ مُتَّصِلًا لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ صَرِيحًا هَاهُنَا اكْتِفَاءً بِالْإِشَارَةِ الْمُدْرَجَةِ فِي التَّعْلِيلِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْقَطِعٌ إنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ مَوْصُوفُونَ بِالْإِجْرَامِ فَاخْتَلَفَ لِذَلِكَ الْجِنْسَانِ، وَمُتَّصِلٌ إنْ كَانَ مِنْ الضَّمِيرِ فِي مُجْرِمِينَ كَأَنَّهُ قِيلَ إلَى قَوْمٍ قَدْ أَجْرَمُوا كُلُّهُمْ إلَّا آلَ لُوطٍ وَحْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجْرِمُوا وَآلُ لُوطٍ عَلَى تَقْدِيرِ الِانْقِطَاعِ مُخْرَجُونَ مِنْ حُكْمِ الْإِرْسَالِ إلَيْهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أُرْسِلُوا إلَى الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ خَاصَّةً وَلَمْ يُرْسَلُوا إلَى آلِ لُوطٍ أَصْلًا وَمَعْنَى إرْسَالِهِمْ إلَيْهِمْ كَإِرْسَالِ الْحَجَرِ وَالسَّهْمِ إلَى الْمَرْمَى فِي أَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّعْذِيبِ وَالْإِهْلَاكِ كَأَنَّهُ قِيلَ إنَّا أَهْلَكْنَا قَوْمًا مُجْرِمِينَ وَلَكِنَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّصَالِ هُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِ الْإِرْسَالِ عَلَى مَعْنَى الْمَلَائِكَةِ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ جَمِيعًا لِيُهْلِكُوا هَؤُلَاءِ وَيُنَجُّوا هَؤُلَاءِ فَلَا يَكُونُ الْإِرْسَالُ مُخْلَصًا لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ وَالتَّعْذِيبِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.

وَقَوْلُهُ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ فِي الْمُنْقَطِعِ جَارٍ مَجْرَى خَبَرِ لَكِنَّ فِي الِاتِّصَالِ بِآلِ لُوطٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَكِنَّ آلَ لُوطٍ مُنَجَّوْنَ وَفِي الْمُتَّصِلِ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ كَأَنَّ إبْرَاهِيمُ قَالَ لَهُمْ فَمَا حَالُ آلِ لُوطٍ فَقَالُوا إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ وَالِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي مِنْ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَمُنَجُّوهُمْ لَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ فِيهِ وَأَنْ يُقَالَ أَهْلَكْنَاهُمْ إلَّا آلَ لُوطٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015