وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ لَمْ يَكُنْ جَرْحًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ مِمَّا هُوَ خِلَافٌ بِيَقِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَرْحٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهِ رِوَايَتُهُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ تَارِيخُهُ لَمْ يَسْقُطْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْآثَارِ وَالْمَبْسُوطِ، وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ نَقْلًا عَنْ خَطِّ الشَّيْخِ الْإِمَامِ سَيْفِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْبَاخَرْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَدَارَ حَدِيثِ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا» عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى الدِّمَشْقِيِّ صَاحِبِ الْمَنَاكِيرِ ضَعَّفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، ثُمَّ السُّؤَالُ إذَا كَانَ بِمَعْنَى الِالْتِمَاسِ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْهِ بِنَفْسِهِ يُقَالُ سَأَلْتُهُ الرَّغِيفَ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْسَارِ يَتَعَدَّى إلَى الْأَوَّلِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الثَّانِي بِعَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] ، {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163] فَعَرَفْت بِهَذَا أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ فِي قَوْلِهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهَا وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَسَأَلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا وَجْهَ لَهُ بَلْ الصَّوَابُ وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ (وَمِثَالُ ذَلِكَ) أَيْ مِثَالُ إنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فِي غَيْرِ الْأَحَادِيثِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَتَوَقَّعُ مِنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ كِتَابًا فَصَنَّفَ مُحَمَّدٌ كِتَابَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَسْنَدَهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِوَاسِطَةِ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَلَمَّا عُرِضَ عَلَى أَبِي يُوسُفَ اسْتَحْسَنَهُ.
وَقَالَ حَفِظَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَّا مَسَائِلَ خَطَّأَهُ فِي رِوَايَتِهَا عَنْهُ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُحَمَّدًا قَالَ بَلْ حَفِظْتُهَا وَنَسِيَ هُوَ فَلَمْ يَقْبَلْ أَبُو يُوسُفَ شَهَادَةَ مُحَمَّدٍ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى إخْبَارِهِ عَنْهُ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ أَيْ أَصَرَّ عَلَى مَا رُوِيَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَسْقُطُ الْخَبَرُ بِإِنْكَارِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَقِيلَ هِيَ ثَلَاثٌ وَقِيلَ هِيَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَالِاخْتِلَافُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْعَرَضِ وَجَمِيعُهَا مَذْكُورٌ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا إذَا عَمِلَ بِخِلَافِهِ) عَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَوْ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ رِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ، أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ الرِّوَايَةِ، أَوْ بَعْدَ الرِّوَايَةِ وَلَا يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا بِيَقِينٍ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ الْخَبَرِ بِوَجْهٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرِّوَايَةِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَرْحًا فِي الْحَدِيثِ بِوَجْهٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبُهُ وَأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ الْخِلَافَ بِالْحَدِيثِ وَرَجَعَ إلَيْهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إحْسَانًا لِلظَّنِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بَعْدَ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ إيَّاهُمْ مُعْتَقِدِينَ إبَاحَتَهَا فَلَمَّا بَلَغَهُمْ انْتَهَوْا عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الْآيَةَ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ أَوْ الْفَتْوَى مِنْهُ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ أَوْ بَعْدَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَذَلِكَ خِلَافُ يَقِينٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْ الْخِلَافَ جَرْحٌ فِيهِ أَيْ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ خِلَافَهُ إنْ كَانَ حَقًّا بِأَنْ خَالَفَ لِلْوُقُوفِ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَقَدْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَيْ بِالْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ أَوْ مَا هُوَ لَيْسَ بِثَابِتٍ سَاقِطُ الْعَمَلِ وَالِاعْتِبَارِ.
وَإِنْ كَانَ خِلَافُهُ بَاطِلًا بِأَنْ خَالَفَ لِقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالتَّهَاوُنِ بِالْحَدِيثِ أَوْ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَقَدْ سَقَطَتْ بِهِ رِوَايَتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا وَكَانَ فَاسِقًا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُغَفَّلًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ إنَّمَا صَارَ فَاسِقًا بِالْخِلَافِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ مَا رُوِيَ قَبْلَهُ كَمَا لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ الرِّوَايَةِ، قُلْنَا قَدْ بَلَغَ الْحَدِيثُ إلَيْنَا