إلَّا أَنَّا أَخَّرْنَاهُ مَعَ هَذَا عَنْ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَرْبُ مَزِيَّةٍ لِلْمَرَاسِيلِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَمْ يَجُزْ النَّسْخُ بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ فَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْجَهَالَةَ تُنَافِي شُرُوطَ الْحُجَّةِ فَغَلَطٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَ إذَا كَانَ ثِقَةً تُقْبَلُ إسْنَادُهُ لَمْ يُتَّهَمْ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ مَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ لَا مَعْرِفَةَ مَا أَبْهَمَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْمَرَاسِيلِ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ مِنْ سَلَفِهِمْ وَخَلَفِهِمْ يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَلَوْ كَانَ الْمُرْسَلُ مَرْدُودًا لَامْتَنَعُوا مِنْ رِوَايَتِهِ وَلَمْ يُقِرُّوا عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى قَبُولِهِ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْإِسْنَادُ فِي قَوْلِهِ لَوْ أُسْنِدَ عَنْ غَيْرِهِ ضَمِنَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ فَعَدَّى بِكَلِمَةِ عَنْ عَزَمَ عَلَيْهِ أَيْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَحَكَمَ بِثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَعَمَدَ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ قَصَدَ يُقَالُ عَمَدْت لِلشَّيْءِ أَعْمِدُ عَمْدًا إذَا قَصَدَ لَهُ أَيْ تَعَمَّدْت، وَهُوَ نَقِيضُ الْخَطَاءِ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ وَالْأَمْرَانِ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ وَفِيهِ أَيْ فِي رَدِّ الْمُرْسَلِ تَعْطِيلُ كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ؛ فَإِنَّ الْمَرَاسِيلَ جُمِعَتْ فَبَلَغَتْ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا وَهَذَا تَشْنِيعٌ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ وَانْتَصَبُوا لِحِيَازَةِ الْأَحَادِيثِ وَالْعَمَلِ بِهَا، ثُمَّ رَدُّوا مِنْهَا مَا هُوَ أَقْوَى أَقْسَامِهَا مَعَ كَثْرَتِهِ فِي نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا تَعْطِيلًا لِلسُّنَنِ وَتَضْيِيعًا لَهَا لَا حِفْظًا لَهَا وَإِحَاطَةً بِهَا، ثُمَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى تَرْجِيحِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْمُسْنَدِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّيْخُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ أَيْضًا فَقَالَ الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا مِثْلُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ وَفَوْقَ الْمُسْنَدِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَرَاسِيلَ حُجَّةً اخْتَلَفُوا عِنْدَ تَعَارُضِ الْمُرْسَلِ وَالْمُسْنَدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ وَذَهَبَ عَبْدُ الْجَبَّارِ إلَى أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُرْسَلِ لِتَحَقُّقِ الْمَعْرِفَةِ بِرُوَاةِ الْمُسْنَدِ وَعَدَالَتِهِمْ دُونَ رُوَاةِ الْمُرْسَلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ أَوْلَى مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَدَالَتُهُ وَلَا نَفْسُهُ وَتَمَسَّكَ مَنْ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِصِحَّةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَا، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنِّي أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ كَذَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِثْلَ الْإِسْنَادِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِسْنَادِ هَذَا أَيْضًا.
فَإِنْ قَالَ الرَّاوِي إذَا أَرْسَلْت الْحَدِيثَ فَقَدْ حَدَّثْته عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الثِّقَاتِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْسَلُهُ أَقْوَى مِنْ حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ إلَى وَاحِدٍ لِأَجْلِ الْكَثْرَةِ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ الْمُرْسَلَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ (إلَّا أَنَّا أَخَّرْنَاهُ) اسْتِثْنَاءٌ بِمَعْنَى لَكِنَّ وَجَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَمَّا كَانَ الْمُرْسَلُ عِنْدَكُمْ فَوْقَ الْمُسْنَدِ كَانَ مِثْلَ الْمَشْهُورِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمَشْهُورِ، فَقَالَ هَذِهِ مَزِيَّةٌ ثَبَتَتْ لِلْمَرَاسِيلِ بِالِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ فَيَكُونُ مِثْلَ قُوَّةٍ ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ وَقُوَّةُ الْمَشْهُورِ ثَبَتَتْ بِالتَّنْصِيصِ وَمَا ثَبَتَتْ بِالتَّنْصِيصِ فَوْقَ مَا ثَبَتَتْ بِالرَّأْيِ فَلَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ مِثْلَ الْمَشْهُورِ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ.
قَوْلُهُ (وَإِنَّمَا عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَكْفِي لِلتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ سَاكِتٌ عَنْ الْجُرْحِ وَلَوْ كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجُرْحِ تَعْدِيلًا لَكَانَ السُّكُوتُ عَنْ التَّعْدِيلِ جُرْحًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا تَقْلِيدُ مَنْ عَرَفْنَا عَدَالَتَهُ، وَهُوَ الْمُرْسِلُ لَا اتِّبَاعُ مَنْ أَبْهَمَهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ وَالْمُرْسِلُ عَدْلٌ فَلَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْعُدُولَ قَدْ نَقَلُوا عَنْ الْمَجْرُوحِينَ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ نَبَّهُوا عَلَى جُرْحِهِمْ وَأَخْبَرُوا عَنْ حَالِهِمْ، فَأَمَّا إنْ سَكَتُوا بَعْدَ الرِّوَايَةِ عَنْ حَالِهِمْ فَلَا وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ ذَلِكَ وَفِيهِ تَلْبِيسُ الْأَمْرِ عَلَى الْمَرْوِيِّ لَهُ وَتَحْمِيلٌ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ