وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ إنَّمَا يَقَعُ بِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَلَمَّا اطْمَأَنَّ بِظَاهِرِهِ كَانَ أَمْرًا مُحْتَمَلًا فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا كَالدَّاخِلِ عَلَى قَوْمٍ جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ عَنْ التَّأَمُّلِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ تَأَمُّلِهِ لَوَضَحَ لَهُ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ قَلَّمَا يَجِبُ عَنْ دَلِيلٍ أَوْجَبَ عِلْمًا بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ بِهِ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ لَا لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ، وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا قَوْمًا عُدُولًا أَئِمَّةً لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يَتَّفِقُ أَمَاكِنُهُمْ طَالَتْ صُحْبَتُهُمْ وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا شَرْقًا وَغَرْبًا، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ وَلِهَذَا صَارَ الْقُرْآنُ مُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ وَاشْتَغَلُوا بِبَذْلِ الْأَرْوَاحِ فَكَانَ خَبَرُهُمْ فِي نِهَايَةِ الْبَيَانِ قَاطِعًا احْتِمَالَ الْوَضْعِ يَقِينًا بِلَا شُبْهَةٍ إذْ لَوْ كَانَ شُبْهَةُ وَضْعٍ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ وَاخْتِلَاطِ أَهْلِ النِّفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ذَلِكَ مِثْلُ سَلَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَعَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ ذَلِكَ إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمَا خَفِيَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ، وَهَذَا مِثْلُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَ كَوْنِ الْعَقْلِ صَارِفًا عَنْهُ وَدَاعِيًا إلَى الصِّدْقِ، وَعَدَمَ دَعْوَةِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى إلَيْهِ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ فِي نَفْسِ الْكَذِبِ أَمْرٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عَادَةً.
وَكَذَا الثَّالِثُ؛ لِأَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَتَفَرُّقَ أَمَاكِنِهِمْ وَاخْتِلَافَ هِمَمِهِمْ يَمْنَعُ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ عَادَةً.، وَكَذَا الرَّابِعُ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إمَّا الرَّغْبَةُ أَوْ الرَّهْبَةُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَرْءَ يُقَدَّمُ عَلَى الْكَذِبِ لِرَغْبَتِهِ إلَى الْجَاهِ وَالْمَالِ، وَأَنْوَاعِ النَّفْعِ أَوْ لِخَوْفِ الْإِضْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، وَأَهْلِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مِمَّنْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ، وَهَذَا الدَّاعِي مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ شُمُولُهُ فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ لِاسْتِغْنَاءِ الْبَعْضِ عَلَى حِشْمَةِ الْأَمْرِ وَجَاهِهِ، وَمَالِهِ بِالْكَذِبِ لِكَمَالِ جَاهِهِ، وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَكَذَا احْتِمَالُ خَوْفِ الضَّرَرِ مَعْدُومٌ فِي حَقِّ الْبَعْضِ لِكَمَالِ قُوَّتِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَتْبَاعِهِ نَحْوَ السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ صِدْقًا إذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْأَخْبَارِ فَكَانَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَتْحَ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُفْضِي إلَى تَطْوِيلِ الْكَلَامِ وَيَزْدَادُ ذَاكَ إشْكَالَاتٍ وَاعْتِرَاضَاتٍ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ إلَّا بِالْجَوَابِ الْقَاطِعِ عَنْهَا، وَلَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ تَدْقِيقَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ الْبَيِّنِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ عِلْمَهُ بِوُجُودِ مَكَّةَ، وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالدَّلِيلِ الْخَفِيِّ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ، وَبِنَاءُ الْوَاضِحِ عَلَى الْخَفِيِّ غَيْرُ جَائِزٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِهِ ضَرُورِيٌّ وَالتَّشْكِيكُ وَالتَّرْدِيدُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ بَاطِلٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ كَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ.
قَوْلُهُ (وَالطُّمَأْنِينَةُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ سَلَّمْنَا أَنَّ تَوَاطُؤَ مِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ خِلَافُ الْعَادَةِ، وَلِذَلِكَ أَثْبَتْنَا عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَوَهُّمَ الِاتِّفَاقِ مُنْقَطِعٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلِبَقَاءِ هَذَا التَّوَهُّمِ لَمْ يَثْبُتْ عِلْمُ الْيَقِينِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَالِ مَنْ رَأَى آثَارَ الْمَوْتِ فِي دَارِ إنْسَانٍ، وَأَخْبَرَ بِمَوْتِهِ. فَقَالَ الطُّمَأْنِينَةُ أَيْ الِاطْمِئْنَانُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُخَالِفُ فَإِنَّهُ عِلْمٌ يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ أَوْ يَعْتَرِيهِ وَهْمٌ. وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُخَالِفِ إنَّمَا يَقَعُ فِيمَا يَقَعُ مِنْ الصُّوَرِ لِغَفْلَةٍ مِنْ الْمُتَأَمِّلِ حَيْثُ يُكْتَفَى بِالظَّاهِرِ، وَلَا يُتَأَمَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَوْ تَأَمَّلَ فِي الْأَمْرِ حَقَّ تَأَمُّلِهِ وَجَدَّ فِي طَلَبِ حَقِيقَتِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ، وَلَا يَزِيدُهُ التَّأَمُّلُ إلَّا تَحْقِيقًا فَلَا أَيْ لَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ بَلْ يُوجِبُ يَقِينًا ثُمَّ بَيَّنَ نَظِيرَ مَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةً فَقَالَ كَالدَّاخِلِ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَوَضَحَ لَهُ فَسَادُ بَاطِنِهِ، جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ أَيْ لِلْمُصِيبَةِ وَالْمَأْتَمُ عِنْدَ الْعَرَبِ النِّسَاءُ يَجْتَمِعْنَ فِي فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ وَالْجَمْعُ الْمَآتِمُ وَعِنْدَ الْعَامَّةِ الْمُصِيبَةُ يَقُولُونَ كُنَّا فِي مَأْتَمِ فُلَانٍ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ فِي مَنَاحَةِ فُلَانٍ كَذَا فِي الصِّحَاحِ. يَقَعُ لَهُ الْعِلْمُ أَيْ عِلْمُ الطُّمَأْنِينَةِ.
وَقَوْلُهُ فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُتَوَاتِرِ نَظِيرُ قَوْلِهِ فَأَمَّا أَمْرٌ يُؤَكِّدُ بَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ لِمَعْنًى فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ تَوَهُّمِ الْمُوَاطَأَةِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا كُلَّمَا زَادَ الْمَرْءُ تَأَمُّلًا ازْدَادَ يَقِينًا فَالتَّشْكِيكُ فِيهِ يَكُونُ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ التَّشْكِيكِ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ.
ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي فِي الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِ وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَانُوا كَذَا وَذَكَرَ أَوْصَافًا يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي قَطْعِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ مِنْ الْعَدَالَةِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَطُولِ صُحْبَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا أَيْ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ أَيْ الْإِنْشَاءَ وَالِابْتِدَاءَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ عَادَةً. وَقَوْلُهُ، وَلَمَا تُصُوِّرَ الْخَفَاءُ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ إنْ صَحَّ ذَلِكَ أَيْ، وَلَوْ تُصُوِّرَ الِاخْتِرَاعُ مِنْهُمْ لَمَا تُصُوِّرَ خَفَاءُ اخْتِرَاعِهِمْ مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ. وَلَفْظُ بَعْضِ الْكُتُبِ، وَلَوْ كَانَ لَظَهَرَ لَنَا خُصُوصًا مَعَ بُعْدِ الزَّمَانِ، وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا يَقْطَعُ الِاخْتِرَاعَ بِأَنْ يُقَالَ تَوَهُّمُ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ