وَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ مِنْ هَذَا نَظِيرُ التَّأْخِيرِ وَالْحُكْمُ هُوَ التَّأْخِيرُ، وَالْيُسْرُ فِيهِ مُتَعَارِضٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لِسَبَبِ السَّفَرِ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ بِشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ وَالتَّأْخِيرُ إلَى أَيَّامِ الْإِقَامَةِ يَتَعَذَّرُ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ وَيَخِفُّ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الرِّفْقُ بِمَرَافِقِ الْإِقَامَةِ، وَالنَّاسُ فِي الِاخْتِيَارِ مُتَفَاوِتُونَ فَصَارَ التَّخْيِيرُ لِطَلَبِ الرِّفْقِ فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا وَلِلْعَبْدِ اخْتِيَارٌ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ فَلَا؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ وَقَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ لِمَا قُلْنَا، وَهُوَ الَّذِي وُعِدْنَاهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي دَرْكِ حُدُودِ الْفِقْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا إسْقَاطُ الْبَعْضِ فِي هَذَا أَيْ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ نَظِيرُ التَّأْخِيرِ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِلَا مَشِيئَةٍ مِنَّا، وَلَا رَأْيٍ فَكَذَا الْقَصْرُ فِي الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ السَّبَبِيَّةِ وَبَقِيَ مُوجَبًا كَمَا كَانَ حَتَّى لَزِمَهُ الْقَضَاءُ إذَا أَدْرَكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ جَازَ التَّعْجِيلُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ مِمَّا يَقْبَلُ التَّعْجِيلَ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ؛ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَبَتَ لِلتَّيْسِيرِ، وَالْيُسْرُ مُتَعَارِضٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ. وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْيُسْرِ؛ لِأَنَّ الْبَلِيَّةَ إذَا عَمَّتْ طَابَتْ. فَصَارَ الِاخْتِيَارُ ضَرُورِيًّا أَيْ ثَبَتَ ضَرُورَةُ طَلَبِ الرِّفْقِ وَالْعَبْدُ أَهْلٌ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. فَأَمَّا مُطْلَقُ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ رِفْقٍ فَلَا أَيْ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ إلَهِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا.
وَصَارَ الصَّوْمُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ السَّبَبِ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الرُّخْصَةِ أَيْضًا.، وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ فَقَالَ الْعَزِيمَةُ فِي الصَّوْمِ مُتَأَخِّرَةٌ إلَى عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَالَبٍ بِالصَّوْمِ إلَّا بَعْدَ إدْرَاكِهَا فَلَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ ثَابِتًا فِي الْحَالِ فَكَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ الْحُكْمُ إلَى زَمَانِ الْإِقَامَةِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ فَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ أَوْلَى.
ثُمَّ شَرَعَ فِي جَوَابِ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَقَالَ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أُذِنَ الْعَبْدُ فِي الْجُمُعَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا، وَهُوَ الظُّهْرُ وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، وَهُمَا الْجُمُعَةُ، وَهَذَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ عَيْنًا عِنْدَ الْإِذْنِ كَمَا فِي الْحُرِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ هِيَ الْأَصْلُ حَتَّى لَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحُرِّ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَابِتٌ فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا أَيْ الظُّهْرَ وَالْجُمُعَةَ مُخْتَلِفَانِ فَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلرِّفْقِ بِخِلَافِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ؛ لِأَنَّهُمَا وَاحِدٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا أَنَّ أَدَاءَ أَحَدَيْهِمَا بِنِيَّةِ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مُصَلِّي الظُّهْرِ بِمُصَلِّي الْجُمُعَةِ وَعَكْسُهُ وَيُشْتَرَطُ لِلْجُمُعَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ لِلظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ إنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ شَاءَ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ السَّعْيِ وَالْخُطْبَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَعْنِي كَمَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى مَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ تَخْيِيرُ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ صِيَامُ سَنَةٍ فَفَعَلَ، وَهُوَ مُعْسِرٌ يُخَيَّرُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ مَعَ أَنَّهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَوْمُ السَّنَةِ وَالثَّلَاثَةِ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى أَيْ مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى، وَإِنْ اتَّفَقَا صُورَةً؛ لِأَنَّ صَوْمَ السَّنَةِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ، وَصَوْمَ الثَّلَاثِ كَفَّارَةٌ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ بِالْيَمِينِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ فَصَحَّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلْأَرْفَقِ عِنْدَهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ وُقُوعَهُ كَمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الدُّخُولِ.
فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ وُقُوعَهُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إنْ قَدِمَ غَائِبِي فَعَلَيَّ كَذَا فَلَا تَخْيِيرَ بَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ لَا غَيْرُ هُوَ الصَّحِيحُ. وَفِي مَسْأَلَتِنَا أَيْ مَسْأَلَةِ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ هُمَا سَوَاءٌ أَيْ الْقَصْرُ وَالْإِكْمَالُ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ