أَمَّا الْفَرْضُ فَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عِلْمًا وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَعَمَلًا بِالْبَدَنِ، وَهُوَ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرَائِعِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ بِلَا عُذْرٍ، وَأَمَّا حُكْمُ الْوُجُوبِ فَلُزُومُهُ عَمَلًا بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ لَا عِلْمًا عَلَى الْيَقِينِ لِمَا فِي دَلِيلِهِ مِنْ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ جَاحِدُهُ وَيُفَسَّقَ تَارِكُهُ إذَا اسْتَخِفَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَأَمَّا مُتَأَوِّلًا فَلَا، وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْقِسْمَ، وَأَلْحَقَهُ بِالْفَرَائِضِ فَقُلْنَا أَنْكَرَ الِاسْمَ فَلَا مَعْنَى لَهُ بَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ اسْمَ الْفَرِيضَةِ، وَأَنْكَرَ الْحُكْمَ بَطَلَ إنْكَارُهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ نَوْعَانِ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ، وَإِذَا تَفَاوَتَ الدَّلِيلُ لَمْ يُنْكَرْ تَفَاوُتُ الْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقِيلَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فِي الشَّرْعِ. وَقِيلَ هُوَ مَا يُمْدَحُ الْمُكَلَّفُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ. وَقِيلَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ عَنْ الْوَاجِبِ الْمُضَيَّقِ. وَبِقَوْلِهِ مُطْلَقًا عَنْ الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَالْكِفَايَةِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْفَرْضُ فَحُكْمُهُ اللُّزُومُ عِلْمًا وَتَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ) أَيْ يَجِبُ الِاعْتِقَادُ بِحَقِّيَّتِهِ قَطْعًا وَيَقِينًا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَهُوَ الْإِسْلَامُ أَيْ الِاعْتِقَادُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ إسْلَامًا حَتَّى لَوْ تَبَدَّلَ بِضِدِّهِ يَكُونُ كُفْرًا. وَعَمَلًا بِالْبَدَنِ أَيْ يَجِبُ إقَامَتُهُ بِالْبَدَنِ حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ بِهِ يَكُونُ عَاصِيًا، وَفَاسِقًا إذَا كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ كَافِرًا إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الشَّرَائِعِ لَا مَا هُوَ أَصْلُ الدِّينِ لِبَقَاءِ الِاعْتِقَادِ عَلَى حَالِهِ. وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ أَيْ يُنْسَبُ إلَى الْكُفْرِ مَنْ أَكْفَرَهُ إذَا ادَّعَاهُ كَافِرًا، وَمِنْهُ لَا تُكَفِّرْ أَهْلَ قِبْلَتِك، وَأَمَّا لَا تُكَفِّرُوا أَهْلَ قِبْلَتِكُمْ فَغَيْرُ ثَبْتٍ رِوَايَةً، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لُغَةً قَالَ الْكُمَيْتُ يُخَاطِبُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ شِيعِيًّا:
وَطَائِفَةٌ قَدْ كَفَّرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيءٌ وَمُذْنِبُ
كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْوُجُوبِ أَيْ الْوَاجِبِ فَلُزُومُهُ عَمَلًا لَا عِلْمًا أَيْ يَجِبُ إقَامَتُهُ بِالْبَدَنِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ اعْتِقَادُ لُزُومِهِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ وَلُزُومُ الِاعْتِقَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى الدَّلِيلِ الْيَقِينِيِّ. وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ إذَا اسْتَخَفَّ. إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَمَّا إنْ تَرَكَهُ مُسْتَخِفًّا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِأَنْ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِهَا وَاجِبًا أَوْ تَرَكَهُ مُتَأَوِّلًا لَهَا أَوْ تَرَكَهُ غَيْرَ مُسْتَخِفٍّ، وَلَا مُتَأَوِّلٍ. فَفِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ يَجِبُ تَضْلِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّهُ رَادٌّ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ. وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي لَا يَجِبُ التَّضْلِيلُ، وَلَا التَّفْسِيقُ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ سِيرَةُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي النُّصُوصِ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَفِي الْقِسْمِ الْأَخِيرِ يُفَسَّقُ، وَلَا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ لَمَّا وَجَبَ كَانَ الْأَدَاءُ طَاعَةً وَالتَّرْكُ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ عِصْيَانًا، وَفِسْقًا هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ تَرْكَهُ لَا يُوجِبُ التَّضْلِيلَ أَصْلًا وَيُوجِبُ التَّفْسِيقَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا، وَلَا يُوجِبُهُ إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّفْسِيقِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ بَلْ هُوَ سَاكِتٌ عَنْهُ وَالْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بِخُطُوطٍ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ التَّضْلِيلِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ مَعْنَى مَا ذُكِرَ هُنَا وَيُفَسَّقُ تَارِكُهُ وَيُضَلَّلُ إذَا اسْتَخَفَّ. وَالْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَضْلِيلَ فِيهِ أَصْلًا، وَلَا تَفْسِيقَ إلَّا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ الْوَاجِبَ كَالْمَكْتُوبَةِ فِي لُزُومِ الْعَمَلِ وَالنَّافِلَةِ فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ حَتَّى لَا يَجِبَ تَكْفِيرُ جَاحِدِهِ، وَلَا تَضْلِيلُهُ وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يُكَفَّرَ الْمُخَالِفُ بِتَكْذِيبِهِ، وَلَا يُفَسَّقُ بِتَرْكِهِ عَمَلًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَخِفًّا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فَيُفَسِّقُهُ قَوْلُهُ (وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْقِسْمَ) أَيْ أَنْكَرَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَقَالَ هُمَا مُتَرَادِفَانِ وَيَنْطَلِقَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُلَامُ شَرْعًا بِوَجْهٍ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ.
قَالَ: وَاخْتِلَافُ طَرِيقِ الثُّبُوتِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ اخْتِلَافَ طُرُقِ النَّوَافِلِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حَقَائِقِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَرَامِ بِالْقَطْعِ وَالظَّنِّ غَيْرُ مُوجِبٍ اخْتِلَافَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْحَرَامُ. قَالَ وَتَخْصِيصُ اسْمِ الْفَرْضِ بِالْمَقْطُوعِ وَالَوْا جِبْ بِالْمَظْنُونِ تَحَكُّمٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ لُغَةً هُوَ التَّقْدِيرُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَقْطُوعًا أَوْ مَظْنُونًا بِهِ. وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ السَّاقِطُ سَوَاءٌ كَانَ مَظْنُونًا بِهِ مَقْطُوعًا بِهِ فَكَانَ