. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ دَلَّنَا عَلَى الْوُجُوبِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ الْقَذْفُ إذْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِإِقَامَةِ مَا وَجَبَ مِنْ فِعْلٍ أَوْ كَفٍّ بِسَبَبٍ وَإِذَا دَلَّ النَّهْيُ عَنْ الْقَبُولِ عَلَى سَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ أَبْطَلَتْهَا وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ غَيْرُ مُبْطِلٍ بِنَفْسِهِ عُلِمَ أَنَّهُ بَطَلَ حَدًّا كَأَنَّهُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] مُؤْلِمَةً مُحَرِّمَةً لِقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَوْ مُبْطِلَةً لِأَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ وَقَوْلُكُمْ النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
قُلْنَا: الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ شَهَادَةٌ تَحَرَّمَ قَبُولُهَا حَتَّى انْعَقَدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْعَبْدِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَجُمْلَةٌ تَامَّةٌ بِنَفْسِهَا مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا تَقَدَّمَهَا لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَهَا جُمْلَتَانِ فِعْلِيَّتَانِ أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَنَهْيٌ عَنْ آخَرَ خُوطِبَ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إخْبَارٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْقَاذِفِينَ وَبَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ جَزَاءً عَلَى الْقَذْفِ حَتَّى يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ بَلْ الْمَقْصُودُ بِهِ إزَالَةُ إشْكَالٍ عَسَى يَقَعُ وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً إذَا كَانَ الرَّامِي صَادِقًا لَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ الشُّهُودِ وَالزَّانِي مُصِرًّا فَكَانَ يَقَعُ الْإِشْكَالُ أَنَّهُ لِمَاذَا كَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ عُقُوبَةٍ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ الْعَاصُونَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ حِينَ عَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ بَقِيَ كَلَامًا مُبْتَدَأً وَكَانَتْ الْوَاوُ لِلنَّظْمِ وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْصَرِفًا إلَيْهِ لَا غَيْرَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَّصِلًا بَعْضُهُ بِبَعْضِ صُورَةً وَمَعْنًى وَهَاهُنَا قَدْ انْقَطَعَ هَذَا الْكَلَامُ عَمَّا تَقَدَّمَهُ فَاقْتَصَرَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِ فَإِذَا تَابَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ أَبَدًا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ: إنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] بِالْفَاءِ فَلَمَّا قِيلَ بِالْوَاوِ عُلِمَ أَنَّهُ إخْبَارٌ لَا تَعْلِيلٌ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَكَانَ فِي الْآيَةِ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي الْبَيَانِ وَلِهَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَوَانُهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَذُكِرَ فِي طَرِيقَةِ الْإِمَامِ الْبُرْغَرِيِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ شَهَادَتَهُ بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ إتْيَانِ الشُّهُودِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ مَرْدُودَةٌ وَلَكِنْ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يَقْبَلُ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْعَجْزِ تَحَقُّقُ فِسْقِهِ وَلَكِنْ تَوَقَّفَ بُطْلَانُهَا حَدًّا عَلَى الْجَلْدِ لِأَنَّ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ وَإِنْ وَجَبَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ حُكْمُ الْإِبْطَالِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ الْإِبْطَالِ كَمَا أَنَّ الْأَلَمَ الَّذِي يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَلْدِ لَا حُكْمُ وُجُوبِ إيقَاعِهِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يُقَامُ ابْتِدَاءً بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ أَيْ الْجَزَاءُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ يَحْدُثُ بِوِلَايَةِ الْإِمَامِ لَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ بِالْجَانِي أَحْدَثَهَا بِنَفْسِهِ.
فَاعْتُبِرَ تَمَامُهَا أَيْ تَمَامُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِصِيغَتِهَا أَيْ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لَهَا بِالْأُولَى فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَقِّ الْجَزَاءِ أَيْ فِي كَوْنِهَا جَزَاءً فِي حُكْمِ الْمُبْتَدَأِ أَيْ الْكَلَامِ الْمُسْتَأْنَفِ الْمُنْقَطِعِ عَمَّا سَبَقَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ إذْ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُتَعَلِّقٍ سَابِقٍ فَلَا يُجْعَلُ فِي هَذَا مُبْتَدَأً وَالشَّافِعِيُّ قَطَعَ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَمَّا سَبَقَ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الِاتِّصَالِ وَهُوَ كَوْنُهُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً صَالِحَةً لِلْجَزَاءِ مُفَوَّضَةً إلَى الْأَئِمَّةِ مِثْلُ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهُ