قَالَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْقَتْلِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْخَطَأُ فَكَانَ دَلَالَةً عَلَى وُجُوبِهَا بِالْعَمْدِ لِعَدَمِ الْعُذْرِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ مُسْقِطٌ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ إذَا صَارَتْ كَاذِبَةً فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ أَوْلَى فَصَارَتْ دَلَالَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَعْنَى النَّصِّ لَكِنْ قُلْنَا: هَذَا الِاسْتِدْلَال غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِبَادَةٌ فِيهَا شَبَهٌ بِالْعُقُوبَاتِ لَا تَخْلُو الْكَفَّارَةُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَلَا يَجِبُ إلَّا بِسَبَبٍ دَائِرٍ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ.

وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ كَبِيرَةٌ بِمَنْزِلَةِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ سَبَبًا كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا مَعَ رُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ حَرَامٌ مَحْضٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَنْ يَكُونَ فِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ لِإِيجَابِ حَدِّ الزِّنَا.

يَعْنِي هِيَ لَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ حَتَّى تُرَجِّحُوا اللِّوَاطَةَ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ فَتُوجِبُوا فِيهِ الْحَدَّ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ الْمُعْتَبَرَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي وَهِيَ فِي اللِّوَاطَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَنَّ شُرْبَ الْبَوْلِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ كَمَالِ الْحُرْمَةِ أَيْ مَعَ كَوْنِهِ آكَدُ فِي الْحُرْمَةِ مِنْ الْخَمْرِ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لَا يَنْكَشِفُ بِحَالٍ وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُوجِبُهُ مَعَ أَنَّ حُرْمَتَهَا تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فِي الْمِلَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِوُجُودِ دُعَاءِ الطَّبْعِ فِي الْخَمْرِ وَعَدَمِهِ فِي الْبَوْلِ قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ) أَيْ وَمِنْ الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ اسْتِدْلَالًا بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ وَالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَقَالَ: الْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْخَطَإِ لِارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ لَا لِلْخَطَأِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْحُقُوقِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ وَلَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَإِ مَعَ قِيَامِ الْعُذْرِ الْمُسْقِطِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ فَلَأَنْ يَجِبَ فِي الْعَمْدِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجِنَايَةِ أَقْوَى كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ازْدِيَادَ سَبَبِ الْوُجُوبِ لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ بَلْ يُؤَكِّدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ خَطَأً فِي الْإِحْرَامِ لَمَّا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ أَوْجَبَهَا الْعَمْدُ لِازْدِيَادِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَتْ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَهِيَ الَّتِي عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى الْجِنَايَةِ وَهُوَ صَيْرُورَتُهَا كَاذِبَةً بِاعْتِبَارِ الْحِنْثِ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهَا كَذْبَةً مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ فَلَأَنْ تَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ مِنْ الْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ حَظْرَ الْغَمُوسِ مِنْ جِنْسِ حَظْرِ الْمَعْقُودَةِ إذَا حَنِثَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ حَظْرٌ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا، إلَّا أَنَّهُ فِي الْغَمُوسِ آكَدُ.

يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْيَمِينَ نَوْعَانِ يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ وَنَحْوُهُ، ثُمَّ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ مَاضٍ عَلَى الْكَذِبِ تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَوُجِدَ الشَّرْطُ فَكَذَا الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إذَا تَحَقَّقَ الْكَذِبُ فِيهَا.

وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى ثَابِتٌ لُغَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ يَعْرِفُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْإِثْمِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْجِنَايَةِ.

وَعِنْدَنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْعَمْدِ سَوَاءٌ وَجَبَ الْقَوَدُ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِبْ كَقَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمَوْلَى عَبْدَهُ عَمْدًا وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ مُسْلِمًا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ عَمْدًا وَكَذَا فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَكَذَا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ.

وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهَا لَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مَحْظُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ حُكْمُهَا الثَّوَابُ وَنَيْلُ الدَّرَجَاتِ وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ الْجَنَابَةُ سَبَبًا لِذَلِكَ وَأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابٍ مُبَاحَةٍ كَالنِّصَابِ لِلزَّكَاةِ وَالْوَقْتِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.

وَعُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ: وَأَنَّهُمَا تَتَعَلَّقُ بِمَحْظُورَاتٍ مَحْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ شُرِعَتْ زَاجِرَةً مَحْضَةً وَإِنَّمَا يَجِبُ الزَّجْرُ عَنْ الْمَعَاصِي لَا عَنْ الْمُبَاحِ.

وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عِبَادَةٍ وَعُقُوبَةٍ. أَمَّا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا فَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ الْإِجْزَاءُ كَالْحُدُودِ وَالْعِبَادَاتُ تَجِبُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015