وَلِذَلِكَ جَعَلْنَاهَا بَوَائِنَ وَانْقَطَعَتْ بِهَا الرَّجْعَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادُ مُسْتَتِرًا مُطْلَقًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَوِيلُ النِّجَادِ فَإِنَّ طُولَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بَلْ الْمَقْصُودُ الْكُلِّيُّ طُولُ الْقَامَةِ وَذَلِكَ مُسْتَتِرٌ.
وَتَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذِهِ كَلِمَاتٌ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي غَيْرُ مُسْتَتِرِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ لِلْمُتَكَلِّمِ يَعْنِي أَنَّهَا مَعْلُومَةَ الْمُرَادِ وَالِاسْتِتَارِ فِي مَحَلِّ عَمَلِهَا فَتَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكِنَايَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ. قَوْلُهُ (وَلِذَلِكَ) أَيْ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَامِلَةٌ بِنَفْسِهَا جَعَلْنَاهَا بَوَائِنَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا يَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَالْقَطْعِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَقَوْلُهُ وَانْقَطَعَتْ بِهَا الرَّجْعَةُ تَفْسِيرٌ لِكَوْنِهَا بَوَائِنَ.
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَذَهَبَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَوَائِنُ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا وَذَهَبَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَوَاجِعُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.
وَلِقَلْبِ الْمَسْأَلَةِ الْكِنَايَاتُ بَوَائِنُ أَمْ لَا وَهَذَا اللَّقَبُ عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٌ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ حَقِيقَةً مِثْلُ كِنَايَاتِ الْعَتَاقِ وَكِنَايَاتِ النِّكَاحِ عَلَى أَصْلِنَا كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ وَعِنْدَنَا هَذَا اللَّقَبُ مَجَازٌ كَمَا بَيَّنَّا.
وَالِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ مَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقَاعَهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَأَمَّا إيقَاعُ الْبَيْنُونَةِ فَلَيْسَ فِي وِلَايَتِهِ وَإِنَّمَا تَقَعُ حُكْمًا لِسُقُوطِ الْعِدَّةِ أَوْ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ وَلِوُجُوبِ الْعِوَضِ.
وَعِنْدَنَا الطَّلَاقُ نَوْعَانِ: رَجْعِيٌّ وَبَائِنٌ، فَكَمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ إيقَاعَ الرَّجْعِيِّ يَمْلِكُ إيقَاعَ الْبَائِنِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ كِنَايَاتٍ عَنْ الطَّلَاقِ حَقِيقَةً عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ عَامِلَةً بِنَفْسِهَا إذْ لَيْسَ فِي وِلَايَتِهِ إيقَاعُ الْبَائِنِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ فِي وِلَايَتِهِ ذَلِكَ جَعَلْنَاهَا عَامِلَةً بِنَفْسِهَا وَحَقِيقَتِهَا إذْ لَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى غَيْرِهَا.
حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى.
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] .
الْآيَةَ ذَكَرَ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَشَرَعَ بَعْدَهُ الرَّجْعَةَ وَذَكَرَ الطَّلَاقَ بِبَدَلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الرَّجْعَةَ وَذَكَرَ الثَّلَاثَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ فَمَنْ قَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ الْقَاطِعَ لِلرَّجْعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَشْرُوعٍ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ الْقَاطِعَ لِلرَّجْعَةِ فِي الشَّرْعِ لَمْ يُجْعَلْ قَاطِعًا إلَّا بِالْعِوَضِ أَوْ بِمَعْنَى الْعِدَّةِ أَوْ بِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ لَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ تَغْيِيرَ ذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْقَطْعِ كَالْهِبَةِ لَمَّا شُرِعَتْ مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَهِيَ الْقَبْضُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا بِالتَّنْصِيصِ بِأَنْ قَالَ وَهَبْت لَك هِبَةً تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ: إنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ فِي ضِمْنِ قَوْلِهِ: بَائِنٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْغُوَ صَرِيحُهُ؛ لِأَنَّا لَا نُوقِعُ الطَّلَاقَ فِي ضِمْنِهِ بَلْ نَجْعَلُ قَوْلَهُ بَائِنٌ عِبَارَةً عَنْ الطَّلَاقِ مَجَازًا وَمَتَى صَارَ مَجَازًا فِي غَيْرِهِ سَقَطَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِهِ وَكَانَ الرَّجُلُ فِي هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي أَوْ أَنَا بَائِنٌ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَلَّكْ إلَّا طَلَاقًا وَبَائِنٌ إنَّمَا يَعْمَلُ عَلَى سَبِيلِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا مَلَّكَهُ، إلَّا بِأَنَّهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَمَا شَرَعَهَا لَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَبَتَ لَهُ خِيَارُ الرَّجْعَةِ وَلَوْ قَالَ أَسْقَطْت الْخِيَارَ أَوْ قَالَ طَلَّقْت عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لِي عَلَيْك لَمْ يَسْقُطْ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ إلَيْهِ إسْقَاطَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أَبَنْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ لَا يُثْبِتُ الْبَيْنُونَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ، إلَّا إسْقَاطَ خِيَارِ الرَّجْعَةِ. وَحُجَّتُنَا الْإِبَانَةُ تَصَرُّفٌ مِنْ الزَّوْجِ فِي مِلْكِهِ فَيَصِحُّ كَإِيقَاعِ أَصْلِ الطَّلَاقِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ