حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اسْتَعْمَلَ هَذَا فِي الْإِيلَاءِ بَانَتَا جَمِيعًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ أَوْ لَمَّا تَنَاوَلَتْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ ذَلِكَ نَكِرَةً وَقَدْ قَامَتْ فِيهَا دَلَالَةُ الْعُمُومِ وَهُوَ النَّفْيُ عَلَى مَا سَبَقَ فَلِذَلِكَ صَارَ عَامًّا إلَّا أَنَّهَا أَوْجَبَتْ الْعُمُومَ عَلَى الْإِفْرَادِ لِمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لَا تُطِعْ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَأَطَاعَ أَحَدَهُمَا كَانَ عَاصِيًا وَلَوْ قَالَ وَفُلَانًا لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا حَتَّى يُطِيعَهُمَا وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكَلِّمُهُمَا وَلَوْ قَالَ أَوْ فُلَانًا حَنِثَ إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ الشَّرِكَةِ وَالْجَمْعِ دُونَ الْإِفْرَادِ وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ تَصِيرُ عَامَّةً لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ فَعَمَّتْ بِهَا النَّكِرَةُ كَمَا يُقَالُ: جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ. أَيْ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت
وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي التَّخْيِيرِ يَجْعَلُ الْمَأْمُورَ مُخَالِفًا وَفِي الْإِبَاحَةِ مُوَافِقًا
ـــــــــــــــــــــــــــــQالِانْتِهَاءُ عَنْ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ حُصُولِ الِانْتِهَاءِ عَنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وُجُوبُ الِانْتِهَاءِ عَنْهُمَا وَلِهَذَا عَمَّتْ فِي الْإِبَاحَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الْمُجَالَسَةَ مَثَلًا فِي قَوْلِهِ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَمُجَالَسَةُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثَبَتَ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِحُكْمِ الْإِطْلَاقِ قَوْلُهُ (حَتَّى إذَا كَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ) بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهُ فِي قَوْلِهِ وَفُلَانًا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا وَلَوْ كَلَّمَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فِي الْوَاوِ وَكَأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا دَخَلَ كَلَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ يَمِينَيْنِ فَيَحْنَثُ بِالْكَلَامِ مَعَهُمَا مَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحِنْثِ بِتَعَدُّدِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا هَتْكٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الْعُمُومِ يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ بَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَأُكَلِّمَنَّ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ تَكَلُّمَ أَحَدِهِمَا لِلْبِرِّ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ مَعَ الْآخَرِ وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُ الْيَوْمَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الِامْتِنَاعَ عَنْ تَكَلُّمِ أَحَدِهِمَا مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ عَنْ تَكَلُّمِهِمَا جَمِيعًا قَوْلُهُ (لَوْ) (اسْتَعْمَلَ هَذَا) أَيْ الْحَرْفَ أَوْ فِي الْإِيلَاءِ بِأَنْ قَالَ لَا أَقْرَبُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهُمَا فِي الْمُدَّةِ بَانَتَا جَمِيعًا (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا كَانَتْ كَلِمَةُ أَوْ لِأَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ أَحَدَيْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ أَحَدَيْهِمَا لَا مِنْهُمَا جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْهُمَا بَانَتْ أَحَدَيْهِمَا وَالْخِيَارُ إلَيْهِ فِي التَّعْيِينِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي إيمَانِ الْجَامِعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَمَّمَ هَهُنَا أَيْضًا (قُلْنَا) كَانَ الْقِيَاسُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُولِيًا مِنْهُمَا أَيْضًا لِأَنَّ إحْدَى كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى النَّكِرَةِ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيُوجِبُ التَّعْمِيمَ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا إلَّا أَنَّهَا كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ صِيغَةً وَمَعْنًى لِأَنَّهَا لَا تَعُمُّ بِسَائِرِ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فَكَذَا بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا كَلِمَةُ الْإِحَاطَةِ وَالْعُمُومِ فَلَا يُقَالُ كُلُّ أَحَدَيْكُمَا وَأَنَّهَا لَا تُوصَلُ بِكَلِمَةِ التَّبْعِيضِ فَلَا يُقَالُ إحْدَى مِنْكُمَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَعَارِفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا التَّعْمِيمُ بِالنَّفْيِ أَيْضًا بِخِلَافِ كَلِمَةِ أَوْ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ تُوجِبُهُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ وَبِخِلَافِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا تَعُمُّ بِكَلِمَةِ الْإِحَاطَةِ فَكَذَلِكَ بِالنَّفْيِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا سَبَقَ أَيْ فِي بَابِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَنَّ النَّفْيَ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ فِي النَّكِرَةِ لَمَّا أَنَّ الْإِفْرَادَ أَصْلُهَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ لِتَنَاوُلِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ بِعَارِضٍ يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْعُمُومِ الِاجْتِمَاعُ بَلْ يَثْبُتُ الْعُمُومُ بِصِفَةِ الْإِفْرَادِ أَيْضًا كَمَا فِي كَلِمَةِ كُلُّ وَكَلِمَةِ مَنْ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ رِعَايَةً لِلْحَقِيقَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
قَوْلُهُ (وَمِنْ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ) أَيْ مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عُمُومِهَا اسْتِعْمَالُهَا فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ دَلِيلُ الْعُمُومِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ هِيَ الْإِطْلَاقُ وَرَفْعُ الْمَانِعِ وَذَلِكَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ يُوجِبُ الْعُمُومُ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا قِيلَ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ يُفْهَمُ مِنْهُ جَالِسْ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا إنْ شِئْت أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146]