وَمِثَالُهُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي الْحَرْبِيِّ اسْتَأْمَنَ مُسْلِمًا فَقَالَ لَهُ أَنْتَ آمِنٌ كَانَ أَمَانًا فَإِنْ قَالَ أَنْتَ آمِنٌ سَتَعْلَمُ مَا يَلْقَى لَمْ يَكُنْ أَمَانًا وَلَوْ قَالَ انْزِلْ إنْ كُنْت رَجُلًا لَمْ يَكُنْ أَمَانًا وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ كُنْت رَجُلًا أَوْ إنْ قَدَرْت أَوْ اصْنَعْ فِي مَالِي مَا شِئْت إنْ كُنْت رَجُلًا لَمْ يَكُنْ تَوْكِيلًا وَقَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ لِي عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الرَّجُلُ لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَا أَبْعَدَك لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا وَصَارَ الْكَلَامُ لِلتَّوْبِيخِ بِدَلَالَةِ سِيَاقِ نَظْمِهِ وَأَمَّا الثَّابِتُ بِدَلَالَةٍ مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فَمِثْلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] إنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْكُفْرِ حُمِلَ عَلَى إمْكَانِ الْفِعْلِ وَإِقْدَارِهِ عَلَيْهِ مَجَازًا لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ فَكَانَ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ اتِّصَالٌ وَمِثَالُهُ مَنْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ لَا يَتَغَدَّى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِمَا فِي غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ بِنَاءِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ امْرَأَةٌ قَامَتْ لِتَخْرُجَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَقَعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلْيُؤْمِنْ مَتْرُوكَةٌ هَهُنَا بِقَرِينَةِ فَمَنْ شَاءَ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ فَلْيَكْفُرْ مَتْرُوكَةٌ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} [الكهف: 29] . أَيْ لِلَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ نَارًا وَكَذَا تُرِكَتْ حَقِيقَةُ التَّخْيِيرِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ رَفْعُ الْمَأْثَمِ وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ لَا تُنَاسِبُهُ. وَحُمِلَ أَيْ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ. فَلْيَكْفُرْ. عَلَى الْإِنْكَارِ أَيْ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِنْكَارُ وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْكُفْرُ. وَالتَّوْبِيخُ أَيْ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] .
مَجَازًا أَيْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ لِمُنَاسَبَةٍ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَوْضُوعَهُ الْأَصْلِيَّ هُوَ الطَّلَبُ، وَفَائِدَتُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعَةً إلَى الْآمِرِ كَقَوْلِك خِطْ لِي هَذَا الثَّوْبَ أَوْ احْمِلْ لِي هَذَا الطَّعَامَ، أَوْ إلَى الْمَأْمُورِ كَقَوْلِك الْبَسْ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ ثُمَّ الْأَمْرُ الَّذِي يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلَى الْمَأْمُورِ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ فَمَتَى قَابَلَهُ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِّ وَالْعِصْيَانِ فَذَلِكَ يُوهِمُ لِلْآمِرِ أَنَّهُ إنَّمَا رَدَّ وَعَصَى لِظَنِّهِ أَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَى الْآمِرِ فَيَطْلُبُ مِنْهُ ضِدَّ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ وَيَأْمُرُهُ بِالِاسْتِدَامَةِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى الرَّدِّ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا تَنْزِيهُ نَفْسِهِ عَنْ عَوْدِ عَائِدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَيْهِ إذًا لَوْ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَيْهِ لَمَا دَفَعَهَا بِطَلَبِ ضِدِّهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الطَّبْعِ وَالْعَقْلِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ أَمْرَهُ أَبْغَضَهُ الْآمِرُ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ الْعُظْمَى لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ مَا يَسْتَجْلِبُ الْمَثُوبَةَ الْحُسْنَى فَصَارَ مَعْنَاهُ أَنِّي أَطْلُبُ مِنْك الْعِصْيَانَ لِتَسْتَحِقَّ بِهِ الْخُسْرَانَ وَلِهَذَا لَا يَرِدُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ إلَّا وَقَدْ سَبَقَهُ أَمْرٌ وَاجِبُ الِامْتِثَالِ بِهِ وَقَدْ تَلَقَّاهُ الْمَأْمُورُ بِالْعِصْيَانِ فَهَذَا هُوَ الْمُجَوِّزُ لِاسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى نَزَلَ عَلَى أَسَالِيبِ اسْتِعْمَالَاتِ النَّاسِ فَلِذَلِكَ وَرَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِمَعْنَى التَّوْبِيخِ.
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الضِّدِّ وَإِرَادَةِ الْآخَرِ لِمُعَاقَبَةٍ بَيْنَهُمَا إذْ الْمُرَادُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ قَوْلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] أَيْ اسْتَزِلَّ أَوْ حَرِّكْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِوَسْوَسَتِك وَدُعَائِك إلَى الشَّرِّ. إنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِطَلَبِ الْوُجُودِ مِنْ قِبَلِ الْمَأْمُورِ وَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ هَهُنَا لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ كَرِيمٌ حَكِيمٌ لَا يَلِيقُ بِكَرْمِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ عَدُوِّهِ إبْلِيسَ أَنْ يَسْتَفِزَّ عِبَادَهُ، حُمِلَ عَلَى إمْكَانِ الْفِعْلِ أَيْ تَمْكِينِهِ مِنْهُ وَإِقْدَارِهِ أَيْ جَعْلِهِ قَادِرًا عَلَيْهِ مَجَازًا بِطَرِيقِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُوجِبَ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْعَبْدِ مِنْ الْفِعْلِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ أَعْنِي قُدْرَةَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَصِحَّةِ الْأَسْبَابِ لِأَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ غَيْرُ جَائِزٍ فَاسْتُعِيرَ الْأَمْرُ لِلْإِقْدَارِ وَالتَّمْكِينِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ كَاسْتِعَارَةِ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ فَصَارَ الْمَعْنَى أَنِّي أَمْكَنْتُك وَأَقْدَرْتُك عَلَى تَهْيِيجِهِمْ وَدُعَائِهِمْ إلَى الشَّرِّ.
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِلْإِيجَادِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَكَانَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْ الْإِيجَابِ وَالْإِقْدَارِ يُشِيرُ إلَى مَا ذَكَرْنَا يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ وَلَا إيجَابَ بِدُونِ الْقُدْرَةِ كَانَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْإِقْدَارِ اتِّصَالٌ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ مِنْ لَوَازِمِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فَيَجُوزُ اسْتِعَارَتُهُ لِلْإِقْدَارِ قَوْلُهُ (وَمِثَالُهُ) أَيْ نَظِيرُ مَا تُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْفُرُوعِ قَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى جَوَابًا لِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ فَقَالَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْكَلَامِ لِلْعُمُومِ لِدَلَالَتِهِ لُغَةً عَلَى مَصْدَرٍ مُنَكَّرٍ وَاقِعٍ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ إذْ التَّقْدِيرُ لَا أَتَغَدَّى تَغَدِّيًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَحْنَثَ بِكُلِّ تَغَدٍّ يُوجَدُ بَعْدُ كَمَا لَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ تُرِكَتْ بِدَلَالَةِ حَالِ