وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا إنَّ صَوْمَ النَّفْلِ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ حَتَّى فَسَدَ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ إلَّا مِنْ أَوَّلِهِ وَلَمْ يَتَأَدَّ بِالنِّيَّةِ فِي الْآخِرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ عُرِفَ قُرْبَةً بِمِعْيَارِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ مِعْيَارُهُ إلَّا بِيَوْمٍ كَامِلٍ فَلَمْ يَجُزْ شَرْعُ الْعِبَادَةِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَمْ يُشْرَعْ صَوْمًا وَلَكِنْ لِيَكُونَ ابْتِدَاءُ التَّنَاوُلِ مِنْ الْقَرَابِينِ كَرَاهِيَةً لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا مِنْ غَيْرِ طَعَامِ الضِّيَافَةِ قَبْلَ طَعَامِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيَانَ احْتِمَالِ طَرِيقِ الصِّحَّةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَادَ فِي الْأَكْلِ هُوَ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ فَأَمَّا مَا وَرَاءَهُمَا فَمِنْ السَّرَفِ وَالشَّرَهِ وَلِهَذَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ فَقَالَ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] وَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ فَيَكُونُ تَرْكًا لِلْمُعْتَادِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ عَلَى خِلَافِ هَوَى النَّفْسِ وَلَيْسَ فِيهِ تَرْكُ الْعَشَاءِ بَلْ تَأْخِيرُهُ إلَى الْغُرُوبِ فَكَانَ مَعْنَاهُ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ وَتَرْكَ الْغَدَاءِ الْمُعْتَادِ وَهُوَ عِنْدَ الضَّحْوَةِ وَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ التَّرْكِ فَخَارِجٌ عَلَى الْعَادَةِ وَلَا مَشَقَّةَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الرُّكْنِ مِنْ الضَّحْوَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهَا لَا يَصْلُحُ لِلرُّكْنِيَّةِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِمْسَاكِ الْمُعْتَادِ فَكَانَ هُوَ وَاجِبَ التَّحْصِيلِ ضَرُورَةَ صَيْرُورَةِ هَذَا الْإِمْسَاك رُكْنًا فَكَانَ هَذَا أَصْلًا وَمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ إلَى تَرْكِ الْغَدَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَوَى فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى النِّيَّةِ وَكَانَتْ مُقْتَرِنَةً حَقِيقَةً بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ مَعْنًى وَهُوَ أَصْلٌ فَيُسْتَتْبَعُ تَبَعُهُ فِيمَا يَثْبُتُ فِيهِ كَالْأُمِّ يُسْتَتْبَعُ وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ وَالْعَتَاقِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالتَّدْبِيرِ وَكَالْأَمِيرِ وَالْمَوْلَى يَسْتَتْبِعُ الْعَسْكَرَ وَالْعَبْدُ فِي نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَثْبُتُ النِّيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَقْدِيرًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ تَحْقِيقًا وَكَانَ إثْبَاتُ النِّيَّةِ فِيهِ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا وَفَاءً لِحَقِّهِ وَتَوْفِيرًا لِحَظِّهِ وَإِذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ الْمُنَاسِبَةُ لَهُ لَا يَجِبُ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ وَهُوَ جَوَازُ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فَأَمَّا الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ فَكَالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ لَهُمَا الصَّوْمُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى الْقَاضِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ وَغَيْرِهِ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثُمَّ نَوَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُجْزِيهِمَا وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُجْزِيهِمَا وَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ الْأَدَاءَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمَا إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ كَالْقَضَاءِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّ الْوُجُوبَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمَا كَمَا فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ إلَّا أَنَّ لَهُمَا التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَرَخَّصَا صَحَّتْ مِنْهُمَا النِّيَّةُ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُقِيمِ وَكَالنَّفَلِ.
قَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الصَّوْمِ مِعْيَارٌ قُلْنَا النَّفَلُ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ الْمِعْيَارُ لِيُوجَدَ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ أَهْلًا لِلصَّوْمِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لِيَتَحَقَّقَ مِنْهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ فَيَفْسُدُ بِوُجُودِ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ مِنْ كُفْرٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ بَعْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا بَلْ يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينَ نَوَى لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَهِيَ كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ الْإِخْبَارِ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ مَبْنَى التَّطَوُّعِ عَلَى النَّشَاطِ فَيَتَأَدَّى بِقَدْرِ مَا يُؤَدِّيه أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ النَّفْلِ تَجُوزُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَالنُّزُولِ وَكَذَا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ لَيْسَتْ بِمُقَدَّرَةٍ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاجِبَةُ مُقَدَّرَةً وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي قَوْلٍ وَكَذَا مَعَ الْمُنَافِي فِي أَوَّلِهِ كَالْكُفْرِ وَالْحَيْضِ فِي قَوْلٍ وَلَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْأَكْلِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّ رُكْنَهُ إمْسَاكٌ يُخَالِفُ هَوَى النَّفْسِ وَلَا يَحْصُلُ