وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَإِنْ الْهَزْلَ يُبْطِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ إقْرَارًا بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْفَسْخُ أَوْ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَالْهَزْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى عَيْنٍ وَهَلَكَتْ الْعَيْنُ أَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَتَعُودُ الْكَفَالَةُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الثُّبُوتِ كَالْخِيَارِ كَذَا رَأَيْت مَكْتُوبًا بِخَطِّ شَيْخِي قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
قَوْلُهُ (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) أَيْ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُخْبِرَا أَنَّهُمَا تَبَايَعَا هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ثُمَّ قَالَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَدْ كُنْت بِعْتُك عَبْدِي هَذَا يَوْمَ كَذَا بِكَذَا وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْت فَلَيْسَ هَذَا بِبَيْعٍ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَيِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِخْبَارِ بِهِ لَا يَصِيرُ حَقًّا.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِرْيَةَ الْمُفْتَرِينَ وَكُفْرَ الْكَافِرِينَ لَا يَصِيرُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ وَهَاهُنَا ثَبَتَ كَوْنُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَذِبًا بِالْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ فَلَا يَصِيرُ حَقًّا بِالْإِقْرَارِ وَلَوْ أَجْمَعَا عَلَى إجَازَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ وَبِالْإِقْرَارِ كَاذِبًا لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ صَنَعَا مِثْلَ ذَلِكَ فِي طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِكَاحًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا عَتَاقًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ الْمُوَاضَعَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نِكَاحًا وَلَا طَلَاقًا وَلَا عَتَاقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يُصَدِّقُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ إذَا أَقَرَّ بِهِ طَائِعًا فَثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ التَّلْجِئَةِ كَمَا ثَبَتَ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
لِأَنَّهُ أَيْ الْإِقْرَارَ يَعْنِي صِحَّتَهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ أَيْ وُجُودَهُ وَتَحَقُّقَهُ فِي الْمَاضِي. وَالْهَزْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ فِي الْمَاضِي فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ أَصْلًا فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ أَيْ الْإِقْرَارُ بِمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَبِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجَمِيعَ يَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمُخْبَرِ بِهِ فَيُؤَثِّرُ الْهَزْلُ فِي الْكُلِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ أَصْلًا حَتَّى كَانَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَتَهُ وَالْعَبْدُ عَبْدَهُ كَمَا كَانَا لَمَّا قُلْنَا إنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ قَاصِدٌ إلَى دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ أَيْ فَكَمَا يَبْطُلُ بِالْإِكْرَاهِ يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا لَمَا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ مِنْهُ هَزْلًا بُطْلَانًا لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَلْحَقُ بِشَيْءٍ يَنْعَقِدُ وَيَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ وَهَذَا الْإِقْرَارُ لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِشَيْءٍ أَصْلًا لِكَوْنِهِ كَذِبًا وَبِالْإِجَازَةِ لَا يَصِيرُ الْكَذِبُ صِدْقًا بِوَجْهٍ فَكَانَ كَبَيْعِ الْحُرِّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ هَزْلًا؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ يَعْتَمِدُ انْعِقَادُهُ أَهْلِيَّةَ الْمُتَكَلِّمِ وَصِحَّةَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ تَحَقَّقْنَا وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ.
قَوْلُهُ (لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ مَبْنَى الرِّدَّةِ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا لِوُجُودِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ يُنَافِي الرِّضَاءَ بِالْحُكْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرًا كَمَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالسُّكْرِ فَقَالَ الْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لَكِنْ بِعَيْنِ الْهَزْلِ يَعْنِي أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ اعْتَقَدَ مَا هَزَلَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ بَلْ نَحْكُمُ بِكُفْرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَفْسَ الْهَزْلِ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِحُكْمٍ مَا هَزَلَ بِهِ لِكَوْنِهِ هَازِلًا فِيهِ فَهُوَ جَادٌّ فِي نَفْسِ التَّكَلُّمِ بِهِ مُخْتَارٌ لِلسَّبَبِ رَاضٍ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هَازِلًا مَثَلًا أَوْ دَعَا لِلَّهِ تَعَالَى شَرِيكًا هَازِلًا فَهُوَ رَاضٍ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ مُخْتَارٌ لِذَلِكَ