وَفَرْقٌ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ عَدَمَ الْحُكْمِ إلَى مَانِعٍ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ وَنَحْنُ نَنْسُبُ الْعَدَمَ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ يَنْعَدِمُ وَصْفُ الْعِلَّةِ أَوْ زِيَادَتُهَا، وَالْعَدَمُ بِالْعَدَمِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي ذَلِكَ الْفَرْعِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْآخَرِ فَيَتَكَافَأُ الدَّلِيلَانِ وَيَسْتَوِي الْقَوْلَانِ. مِثَالُهُ مِنْ عَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ السَّبُعِ بِأَنَّهُ سَبُعٌ فَلَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ فَإِذَا نُقِضَتْ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ بِالضَّبُعِ أَجَابَ بِأَنَّهُ خَصَّهَا فَيَصِيرُ هَذِهِ الْوَصْفُ، وَهُوَ السَّبُعِيَّةُ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّفِقٌ عَلَى كَلِمَةٍ. وَلَيْسَ لِمَنْ أَجَازَ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا بِدَعْوَاهُ التَّرْجِيحَ فِي أَحَدِ وَجْهِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَرْجِيحُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ فِي تَخْصِيصِهِ بِأَحَدِ حُكْمَيْهِ، وَإِذَا اسْتَحَالَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُؤَدِّي إلَى تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَذَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ وَصَاحِبُ الْقَوَاطِعِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ يَجُرُّ إلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَشِيئَةً، وَهِيَ عِلَّةُ حُدُوثِ كُلِّ شَيْءٍ ثُمَّ الْمَشِيئَةُ تُوجَدُ، وَلَا حَادِثَ عِنْدَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ مِنْ الْكُفَّارِ الْإِيمَانَ، وَلَمْ يَحْدُثْ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ فَكَانَتْ عِلَّةُ الْحُدُوثِ مَوْجُودَةً، وَلَكِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهَا لِمَانِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكُفْرِ.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ هَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ كَمَا أَنَّ الْقَائِلَ بِتَخْصِيصِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ قَائِلًا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِذَاتِهَا فَلَأَنْ لَا يَقُولُوا بِتَخْصِيصِ الْمَشِيئَةِ أَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى عِلَّةُ كُلِّ حَادِثٍ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُمْ. وَلَئِنْ كَانَ ثَابِتًا فَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ دُونَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَقَضَائِهِ. فَلَا يَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّخْصِيصِ تَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْفِعْلِ عِلَّةُ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُمْ الْقُوَّةُ مَوْجُودَةٌ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ مَنَعَ الْمُسْتَطِيعَ مِنْ الْفِعْلِ حَتَّى إنَّ عِنْدَهُمْ لِلْمُقَيَّدِ قُوَّةَ الْفِرَارِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ لِمَانِعِ الْقَيْدِ فَإِذَا جَازَ وُجُودُ عِلَّةِ الْفِعْلِ، وَلَا فِعْلَ لِمَانِعٍ جَازَ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَلَا حُكْمَ لَهَا كَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَاتِ لِمَانِعٍ. وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ نَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَجْوِيزَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَجُوزُ مَدْلُولَاتُهَا عَنْهَا فَأَمَّا الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ فَمُوجِبَةٌ بِذَوَاتِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُ مَعْلُولَاتِهَا عَنْهَا كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَمَسْأَلَةُ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَا لَا أَنْسُبُ مَنْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إلَى الِاعْتِزَالِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَّصِلُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا صَارَ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِيَارِنَا مِنْ شِعَارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ كَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ الرَّوَافِضِ، وَكَمَا وَجَبَ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِهِمْ.
1 -
قَوْلُهُ: (لَكِنَّ الْحُكْمَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْعِلَلِ أَبَدًا يَعْنِي لَا يَقَعُ التَّخْصِيصُ فِي الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِوَجْهٍ لَكِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَمْتَنِعُ بَعْدَ وُجُودِ رُكْنِ الْعِلَّةِ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ التَّخْصِيصِ مَانِعًا مُخَصِّصًا وَبِزِيَادَةِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ أَوْ نُقْصَانِهِ مِنْهَا تَتَبَدَّلُ الْعِلَّةُ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ مَا هُوَ كُلُّ الْعِلَّةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَعْضَ