وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ اسْتِوَاءَهَا يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ؛ لِأَنَّهَا إذَا اسْتَوَتْ أُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ وَسَقَطَتْ دَرَجَةُ الْعُلَمَاءِ وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ، وَأَنَّ اخْتِيَارَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَزِيمَةِ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا أَحَقُّ وَوَجْهُ قَوْلِنَا: إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ مَرَّةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى

ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفَاسِدًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.

فَقَالَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَعْنِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا بِأَنْ كَانَ الْحَظْرُ حَقًّا وَالْإِبَاحَةُ حَقًّا أَيْضًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى التَّعَدُّدِ. كَمَا صَحَّ ذَلِكَ أَيْ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ بِأَنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَيْنِ فِي قَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى اقْتِصَارِ رِسَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَوْمِهِ. وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ كَمَا إذَا نُسِخَ الْحَظْرُ بِالْإِبَاحَةِ بِالْحَظْرِ فِي شَرِيعَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ. فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ أَيْ فَكَمَا جَازَ التَّعَدُّدُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ جَازَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَثْبُتُ الْحَظْرُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ آخَرَ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيْتَةَ أُبِيحَتْ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ وَحَرُمَتْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَالْمَنْكُوحَةَ أُحِلَّتْ لِلزَّوْجِ وَحَرُمَتْ عَلَى غَيْرِهِ. وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَى الزَّوْجِ وَأُحِلَّتْ لِغَيْرِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ إبَاحَةُ النَّبِيذِ فِي حَقِّ مُجْتَهِدٍ وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ آخَرَ وَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقًّا وَيَلْزَمُ قَوْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اتِّبَاعُ إمَامِهِ كَمَا فِي الرَّسُولَيْنِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَى عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ لِيَمْتَازَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الِابْتِلَاءُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَيَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الطَّبَقَاتِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ، وَهُوَ التَّكْلِيفُ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ لِلْكُلِّ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحُقُوقِ بَلْ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا فِي حَقِّهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ بِلَا مُرَجِّحٍ.

قَوْلُهُ: (وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ) وَهُوَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْجُمْلَةِ أَحَقُّ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ أَنَّ اسْتِوَاءَ الْحُقُوقِ يَقْطَعُ التَّكْلِيفَ أَيْ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ لَمَّا كَانَ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى السَّوَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي إتْعَابِ النَّفْسِ، وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي الطَّلَبِ فَائِدَةٌ بَلْ يَخْتَارُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مِنْ غَيْرِ امْتِحَانٍ كَالْمُصَلِّي فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَخْتَارُ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ بَذْلِ مَجْهُودٍ، وَإِجَالَةِ تَفَكُّرٍ لَكِنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ يَقُولُونَ إنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لَوْ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ حَقًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحُكْمُ بِحَقِّيَّةِ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ تَابِعٌ لِاجْتِهَادِهِ فَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُمْكِنُ إصَابَةُ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الِاخْتِيَارِ وَبَعْدَمَا اجْتَهَدَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاخْتِيَارُ أَيْضًا لَازِمًا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ فِي حَقِّهِ دُونَ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ وَعِبَارَتُهُ فِيهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْوَاحِدَ حَقٌّ ذَهَبُوا إلَى أَنَّا لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لَبَطَلَتْ مَرَاتِبُ الْفُقَهَاءِ وَسَاوَى الْبَاذِلُ كُلَّ جُهْدِهِ فِي الطَّلَبِ الْمُبْلِي عُذْرَهُ بِأَدْنَى طَلَبٍ.

قَوْلُهُ: (وَبَطَلَتْ الدَّعْوَةُ وَسَقَطَتْ وُجُوهُ النَّظَرِ) يَعْنِي لَوْ ثَبَتَ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْحَقِّيَّةِ بَطَلَتْ دَعْوَةُ الْمُجْتَهِدِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى مَذْهَبِهِ وَسَقَطَتْ الْمُنَاظَرَةُ وَطُوِيَ بِسَاطُهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إظْهَارُ الصَّوَابِ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَدَعْوَةِ الْمُخَالِفِ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ بِالدَّلِيلِ فَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَسْتَقِمْ دَعْوَةُ الْغَيْرِ إلَى مَذْهَبِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ إنَّ مَا اعْتَقَدْته حَقٌّ فَلَازِمْهُ إذْ لَا فَضْلَ لِمَذْهَبِي عَلَى مَذْهَبِك. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا مُنَاظَرَةَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِ صَلَاتَيْهِمَا لَمَّا ثَبَتَ الْحَقِّيَّةُ عَلَى السَّوَاءِ. وَلَكِنْ مَنْ قَالَ بِالِاسْتِوَاءِ يَقُولُ لَيْسَتْ فَائِدَةُ الْمُنَاظَرَةِ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرْتُمْ بَلْ لَهَا فَوَائِدُ أُخَرُ كَتَبَيُّنِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ حَتَّى يَجْزِمَ بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ. أَوْ تَبَيُّنِ التَّسَاوِي حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ الْوَقْفُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015