أَمَّا شَرْطُهُ فَأَنْ يَحْوِيَ عِلْمَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِهِ الَّتِي قُلْنَا وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا، وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَعْرِفَ وُجُوهَ الْقِيَاسِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُنَا هَذَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَاضِيَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ فِي النُّطْقِ فَيَكُونُ فَرْضُ الِاجْتِهَادِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَأَيُّهُمَا تَفَرَّدَ بِالْحُكْمِ سَقَطَ الْفَرْضُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي حَالَتَيْنِ أَيْضًا أَحَدَيْهِمَا أَنْ يَجْتَهِدَ الْعَالِمُ قَبْلَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ لِيَسْبِقَ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا قَبْلَ نُزُولِهَا. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ سَائِلٌ قَبْلَ نُزُولِهَا بِهِ فَيَكُونُ الِاجْتِهَادُ فِي الْحَالَتَيْنِ نَدْبًا كَذَا فِي الْقَوَاطِعِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا شَرْطُهُ) أَيْ شَرْطُ الِاجْتِهَادِ فَأَنْ يَحْوِيَ أَيْ يَجْمَعَ الْمُجْتَهِدُ عِلْمَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ أَيْ مَعَ مَعَانِيهِ أَوْ مُلْتَبِسًا بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرْعًا. وَوُجُوهَهُ أَيْ أَقْسَامَهُ الَّتِي قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ حِفْظَ نَظْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَافِظَ أَضْبَطُ لِمَعَانِيهِ مِنْ النَّاظِرِ فِيهِ. وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الطَّلَبِ وَالنَّظَرِ فِيهِ كَمَا فِي السُّنَنِ. وَقِيلَ يَجِبُ أَنْ يَحْفَظَ مَا اخْتَصَّ بِالْأَحْكَامِ دُونَ مَا سِوَاهُ. وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطَرِيقِهَا أَيْ مُلْتَبِسَةً لِطُرُقِهَا مِنْ التَّوَاتُرِ وَالشُّهْرَةِ وَالْآحَادِ. وَمُتُونَهَا يَعْنِي يَعْرِفُ نَفْسَ الْأَخْبَارِ أَنَّهَا رُوِيَتْ بِلَفْظِ الرَّسُولِ أَوْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى. وَوُجُوهَ مَعَانِيهَا أَيْ لُغَةً وَشَرْعًا مِثْلُ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَسَائِرِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ. وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَيْ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ خَمْسَةَ شُرُوطٍ: مَعْرِفَةَ طُرُقِهَا مِنْ تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ لِيَكُونَ الْمُتَوَاتِرَاتُ مَعْلُومَةً وَالْآحَادُ مَظْنُونَةً. وَمَعْرِفَةَ صِحَّةِ طُرُقِ الْآحَادِ وَرُوَاتِهَا لِيَعْمَلَ بِالصَّحِيحِ مِنْهَا وَيَعْدِلَ عَمَّا لَا يَصِحُّ. وَمَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ لِيَعْلَمَ مَا يُوجِبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَعْرِفَةَ مَعَانِي مَا انْتَفَى الِاحْتِمَالُ عَنْهُ وَحِفْظُ أَلْفَاظِ مَا وُجِدَ الِاحْتِمَالُ فِيهِ. وَتَرْجِيحُ مَا تَعَارَضَ مِنْ الْأَخْبَارِ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ لِلِاجْتِهَادِ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُحِيطًا بِمَدَارِكِ الشَّارِعِ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِثْمَارِ الظَّنِّ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُجْتَنِبًا عَنْ الْمَعَاصِي الْقَادِحَةِ فِي الْعَدَالَةِ، وَهَذَا شَرْطٌ لِجَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ فَمَنْ لَيْسَ عَدْلًا لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ أَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ إذَا كَانَ عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ لِنَفْسِهِ وَيَأْخُذَ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطَ قَبُولِ الْفَتْوَى لَا شَرْطَ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ. ثُمَّ قَالَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْفَتْوَى بِأَنْ يَعْرِفَ الْمَدَارِكَ الْمُثْمِرَةَ لِلْأَحْكَامِ، وَأَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِثْمَارِ. وَالْمَدَارِكُ الْمُثْمِرَةُ أَرْبَعَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْعَقْلُ، وَطَرِيقُ الِاسْتِثْمَارِ تَتِمُّ بِأَرْبَعَةِ عُلُومٍ اثْنَانِ مُقَدَّمَانِ وَاثْنَانِ مُتَمِّمَانِ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةٌ فَلْنُفَصِّلْهَا وَلْنُنَبِّهْ فِيهَا عَلَى دَقَائِقَ أَهْمَلَهَا الْأُصُولِيُّونَ.
أَمَّا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلْنُحَقِّقْ عَنْهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْكِتَابِ بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ. الثَّانِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهَا مِنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَوَاقِعِهَا حَتَّى يَطْلُبَ الْآيَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى أُلُوفٍ فَهِيَ مَحْصُورَةٌ، وَفِيهَا التَّحْقِيقَانِ الْمَذْكُورَانِ إذْ لَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِالْمَوَاعِظِ، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ كَالْجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ وَالْجَامِعِ لِمُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَيَكْفِيهِ أَنْ يَعْرِفَ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ فَيُرَاجِعُهُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَى الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ عَلَى حِفْظِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَكْمَلُ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَوَاقِعُ الْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يُفْتِيَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ