وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنَّا» وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ مُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ كُتِبَ عَلَيَّ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» أَيْ الْأُضْحِيَّةُ.
وَفِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَيْ وَمِثْلُ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَمْ سُنَّةٌ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا فَعِنْدَنَا هِيَ وَاجِبَةٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سُنَّةٌ وَمَفْزَعُ الْفَرِيقَيْنِ السُّنَّةُ دُونَ الرَّأْيِ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ فِي الْإِيجَابِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» وَهُوَ يَتَعَلَّقُ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ بِمَا رَوَيْنَا وَفِي صِفَةِ الْعُمْرَةِ فَعِنْدَنَا هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ كَصَلَاةِ الْعِيدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ فَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْحَجِّ مَا هُوَ أَصْغَرُ وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ» وَقُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ بِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَحَمَلْنَا أَلْفَاظَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ قَوْلُهُ (وَفِي صِفَةِ حُكْمِ الرَّهْنِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ) لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى لَا يَصِحَّ رَهْنُ مَا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِيفَاءِ كَالْخَمْرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ كَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الْوُجُوبِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقُّ الْحَبْسِ وَثُبُوتُ الْيَدِ لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحُكْمِ فَعِنْدَنَا الْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْحَبْسُ ثَابِتٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ حُكْمًا أَصْلِيًّا لِلرَّهْنِ فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ وَيَسْقُطُ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَلَا يَكُونُ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَتْ هَذِهِ يَدَ اسْتِيفَاءٍ بَلْ ثُبُوتُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ بِإِيفَائِهِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِالْبَيْعِ فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ هَلَكَ أَمَانَةً لَا مَضْمُونًا وَكَانَ لِلرَّاهِنِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ ثُمَّ الرَّدِّ إلَى الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ.
وَذَكَرَ فِي الْوَسِيطِ: حَقِيقَةُ الرَّهْنِ تَوْثِيقُ الدَّيْنِ بِتَعْلِيقِهِ بِالْعَيْنِ لِيَسْلَمَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ عَنْ مُزَاحَمَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْإِفْلَاسِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ لِيَحْفَظَ مَحَلَّ حَقِّهِ لِيَوْمِ حَاجَتِهِ وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَى الْمَرْهُونِ وَفِي ثَانِي الْحَالِ اسْتِحْقَاقُ الْبَيْعِ فِي قَضَاءِ حَقِّهِ إذَا لَمْ يُوَفِّهِ الرَّاهِنُ مِنْ مَالٍ آخَرَ ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا لَا نَجِدُ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي عَقْدٍ آخَرَ لِتَعَدِّيهِ إلَيْهِ بِالْقِيَاسِ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَمَعْنَى التَّوَثُّقِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِمَا قُلْت فَإِنَّهُ مِنْ قَبْلُ كَانَ مُطَالَبًا بِالْإِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَحَلٍّ وَبَعْدَ الرَّهْنِ بَقِيَ مَا كَانَ وَازْدَادَ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ مُطَالَبَتُهُ بِالْإِيفَاءِ مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ بِعَيْنِهِ تَبَعًا، وَإِيفَاءً لِلدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ عَلَى مِثَالِ الْكَفَالَةِ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ مُوجِبَهَا ثُبُوتُ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى فَحَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ بِضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ وَهَاهُنَا حَصَلَ مَعْنَى التَّوَثُّقِ بِتَعْيِينِ مَحَلٍّ مَعَ بَقَائِهِ مُطْلَقًا فِي غَيْرِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْمَالِكِ بِهِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ فَلَا يَحْجُرُ الْمَالِكُ عَنْهُ لِحَقِّهِ كَمَا لَا يَحْجُرُ الْمَوْلَى عَنْ اسْتِخْدَامِ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ لِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْوَطْءِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِاسْتِخْدَامِهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرَّهْنُ مَجْلُوبٌ