وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْبُرْ هَذَا النَّقْصَ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ، فَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ شَرْطًا وَهَذَا تَغْيِيرٌ مَحْضٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْحُكْمُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ أَنَّهُ تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَكَانَ الْإِيمَانُ مِنْ شَرْطِهِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ بِقَيْدِ الْإِطْلَاقِ مِثْلَ إطْلَاقِ الْمُقَيَّدِ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ تَغْيِيرٌ لِلْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَرَفْتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَهِيَ دُيُونٌ أَيْ حَالَ كَوْنِهَا دُيُونًا إلَى آخِرِهِ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّلَمِ بِأَنَّ دِينِيَّتَهُ أَصْلٌ، وَدِينِيَّةُ السَّلَمِ عَارِضٌ
وَقَوْلُهُ: وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْبُرْ هَذَا النَّقْصَ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ دَلِيلٌ ثَالِثٌ عَلَى أَصَالَةِ دَيْنِيَّةِ الثَّمَنِ يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ أَصْلًا فِي الثَّمَنِ لَتَمَكَّنَ بِالنَّقْلِ إلَى الدَّيْنِ ضَرْبُ عُذْرٍ فِيهِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ الْعَيْنِ، وَهَذَا نَقْصٌ فِيهِ فَكَانَ يَجِبُ جَبْرُ هَذَا النَّقْصِ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمَبِيعُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا وَجَبَ جَبْرُ غَرَرِ الدَّيْنِيَّةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ بِقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ جَبْرُ هَذَا النَّقْصِ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ عُلِمَ أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ فِيهِ أَصْلٌ فَإِذَا صَحَّ التَّعْيِينُ انْقَلَبَ الْحُكْمُ شَرْطًا يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي الثَّمَنِ وُجُودُهُ وَوُجُوبُهُ فِي الذِّمَّةِ لَوْ صَحَّ التَّعْيِينُ لَخَرَجَ وُجُودُ الثَّمَنِ عَنْ كَوْنِهِ حُكْمًا لِلْبَيْعِ وَلَصَارَ مَحَلًّا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهِ كَمَا فِي جَانِبِ السِّلْعَةِ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْمُحَالَ شُرُوطٌ وَكَانَ فِي التَّعْيِينِ انْقِلَابُ مَا هُوَ الْحُكْمُ شَرْطًا، وَهَذَا أَيْ انْقِلَابُ الْمَذْكُورِ تَغْيِيرٌ مَحْضٌ فَكَانَ بَاطِلًا.
1 -
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: حُكْمُ الْعَقْدِ مَا يَجِبُ بِهِ، وَالثَّمَنُ نَفْسُهُ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَالْمَحَلِّ، وَمَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ لِيَحِلَّهُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ الْعَقْدِ غَيْرُ مَحَلِّهِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ شَرْطٌ يُرَاعَى قَبْلَهُ كَشُرُوطِ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ، وَالْحُكْمُ مَا يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَكَانَا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ، فَإِذَا جَعَلَ الثَّمَنَ مَحَلًّا لِتَعَيُّنِهِ وَشَرَطَهُ كَانَ شَرْطًا تَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِهِ إلَى ضِدِّهِ، فَكَانَ فَاسِدًا كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَحَلَّ بِشَرْطِهِ حُكْمًا (فَإِنْ قِيلَ) : إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ أَصْلٌ فِي الثَّمَنِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَيْنِيَّةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِيهِ بَلْ الدَّيْنِيَّةُ تَكُونُ أَصْلًا عِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ، وَالْعَيْنِيَّةُ تَكُونُ أَصْلًا فِي حَالِ التَّعْيِينِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَالْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا ثُمَّ إذَا عُيِّنَتْ صَحَّ التَّعْيِينُ قُلْنَا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الدَّيْنِيَّةَ أَصْلٌ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنِيَّةُ مَعَهَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ أَنْفَى لِلْغَرَرِ مِنْ الدَّيْنِ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَيْنِ أَكْمَلُ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ فَكَيْفَ تَكُونُ الدَّيْنِيَّةُ مُسَاوِيَةً لِلْعَيْنِيَّةِ فَلَمَّا كَانَتْ الدَّيْنِيَّةُ أَصْلًا لَمْ يَكُنْ الْعَيْنِيَّةُ مَشْرُوعَةً مَعَهَا أَصْلًا إلَّا بِتَرَخُّصٍ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْأَثْمَانِ وَشِبْهَ السِّلَعِ، فَإِنَّ الثَّمَنَ مَا يُقَوَّمُ بِهِ نَفْسُهُ وَغَيْرُهُ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهَا تُقَيَّمُ أَنْفُسُهَا فِي الْإِتْلَافَاتِ، وَيُقَوَّمُ بِهَا الْأَمْوَالُ أَيْضًا وَالسِّلَعُ مَا يُقَوَّمُ بِالْأَثْمَانِ وَلَا يَقَعُ التَّقْوِيمُ بِهَا فِي الْإِتْلَافِ كَالْأَعْيَانِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كَانَتْ تُقَيَّمُ أَنْفُسُهَا فِي الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَلَمْ يَجِبْ بِمُقَابَلَتِهَا دَرَاهِمُ، وَلَا يُقَوَّمُ بِهَا غَيْرُهَا عِنْدَ الْإِتْلَافِ كَمَا يُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، فَقِيلَ: إذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِهَا فِي الذِّمَمِ كَمَا يَعْقِدُ بِالدَّرَاهِمِ ثَبَتَتْ أَثْمَانًا لِشَبَهِهَا بِالْأَثْمَانِ، وَإِذَا عُيِّنَتْ أَوْ عُقِدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا كَمَا يُعْقَدُ عَلَى السِّلَعِ تَثْبُتُ سِلَعًا لِشَبَهِهَا بِالسِّلَعِ فَكَانَ التَّعْيِينُ فِيهَا تَمْيِيزًا لِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا تَغْيِيرًا لِمُوجِبِهَا الْأَصْلِيِّ فَيَصِحُّ وَبِمَا ذَكَرْنَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُغَيِّرًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ مُلَاقِيًا مَحَلَّهُ وَأَمَّا تَعَيُّنُهَا فِي الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَالتَّبَرُّعَاتِ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ مُوجِبِ الْعَقْدِ بَلْ يَتَقَرَّرُ بِهِ مُوجِبُهُ فَإِنَّ الْغَصْبَ أَوْ الْإِيدَاعَ أَوْ الْهِبَةَ لَا يَرِدُ قَطُّ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ فَإِنَّ غَصْبَ الدَّيْنِ وَإِيدَاعَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَا تَمْلِيكُهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ الْعَيْنِيَّةُ