فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ عِنْدَنَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ صِيغَةً لَازِمَةً وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَهُمْ مُوجِبَةٌ كَالْأَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبَعْدَ ذِكْرِ الْأَصْلِ ذَكَرَ لَفْظَ هَذَا، وَهُوَ لِلْإِشَارَةِ إلَى الْقَرِيبِ، وَكَذَا ذَكَرَ قُبَيْلَ بَابِ النَّهْيِ، وَكَانَ عَكْسُهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ مِمَّا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ فَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ وَهَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْغَائِبَ وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالسَّمْعِ أَشْبَهَ الْمَحْسُوسَ الْحَاضِرَ فَصَحَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظَيْنِ وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَخَلَ الْأَمِيرُ الْبَلْدَةَ فَيَقُولُ السَّامِعُ سَمِعْت هَذَا أَوْ سَمِعْت ذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ دُخُولِ الْأَمِيرِ، وَهُوَ مَا لَا يُحَسُّ بِالْبَصَرِ، وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ذَلِكَ الْكِتَابُ هَذَا الْكِتَابُ وَاعْلَمْ أَنَّ عِبَارَاتِ الْقَوْمِ اخْتَلَفَتْ فِي تَعْرِيفِ الْأَمْرِ الَّذِي بِمَعْنَى الْقَوْلِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ تَعْرِيفَهُ كَمَا ذَكَرَ تَعْرِيفَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقِيلَ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِإِتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ لِاشْتِقَاقِهِمَا مِنْهُ، وَبِالطَّاعَةِ الْمُتَوَقِّفَةِ مَعْرِفَتُهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ إلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ.
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ وَنَحْوُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِصِدْقِهِ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّاعِي إلَى تَحْصِيلِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْعُلُوِّ وَيَلْزَمُ عَلَى اطِّرَادِهِ وَاطِّرَادِ الْأَوَّلِ أَيْضًا أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالشَّفَاعَةِ لَا تُسَمَّى أَمْرًا، وَعَلَى انْعِكَاسِهِمَا أَنَّهَا لَوْ صَدَرَتْ مِنْ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ تُسَمَّى أَمْرًا؛ وَلِهَذَا يُنْسَبُ قَائِلُهَا إلَى الْحُمْقِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَقِيلَ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ وَاحْتَرَزَ بِلَفْظِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ فَأَرَادَ بِالِاقْتِضَاءِ مَا يَقُومُ بِالنَّفْسِ مِنْ الطَّلَبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ وَالصِّيغَةُ سُمِّيَتْ بِهِ مَجَازًا، وَبِقَوْلِهِ: فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ احْتَرَزَ عَنْ النَّهْيِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الِالْتِمَاسِ وَالدُّعَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَذَكَرَ فِي الْقَوَاطِعِ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ مَعْنًى قَائِمٌ فِي نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَلَامٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ عِبَارَةً عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَكِنْ لَا يَعْرِفُهُ الْفُقَهَاءُ؛ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ قَوْلَهُ افْعَلْ حَقِيقَةً فِي الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ لَا تَفْعَلْ حَقِيقَةً فِي النَّهْيِ.
قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْمُرَادَ) الْفَاءُ فِي فَإِنَّ إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ الْأَمْرِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ الْخَاصُّ، الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَيْ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُخَالِفِينَ لَا مُوجِبَ لَهُ إلَّا الْوُجُوبُ، يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ أَيْ لَازِمَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِذَلِكَ الْمُرَادِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا، وَقَدْ يَكُونُ عَامًا، وَالْمُرَادُ هُوَ الْخَاصُّ هُنَا لِمَا سَنُشِيرُ إلَيْهِ، ثُمَّ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَعْنَى وَلَا يَكُونُ الْمَعْنَى مُخْتَصًّا بِهِ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْعَكْسِ كَبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ الِاخْتِصَاصُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَبَايِنَةِ فَالشَّيْخُ بِالتَّعَرُّضِ لِلْجَانِبَيْنِ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَخِيرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ تَعَرُّضِ جَانِبِ اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْلُهُ بِصِيغَةٍ لَازِمَةٍ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ خُصُوصِ اللَّفْظِ