قد بخسوه حقه. فإنهم ينوحون حال كبرهم نياحة بالغة، نظمًا ونثرًا، على زمان الصبا. حتى قال قائلهم:
[السريع]
فإن تولى فزمان المدام ... حيث تردى بردا الغلام
ومعلوم أنهم حال الكبر قد صحا العقل عن شببه حال الشبيبة. لأن حال الصبوة والنزاقة الطبع غالب، والغباوة عن مطالعة العواقب والنزاقة ودواعي الشهوات واللذات ورعونات الطباع القاطعة للوقت بما يوجب العطلة عن الطامن أو المقت، حال الكبر قد ظفر العقل بتصفح الأحوال، وتدرب بالتجارب، وصحا له جو الآراء، فتكشفت له العواقب، واكتسب الوقار، وزالت عنه خلاعة الصبا، وذاق طعن العرفان بمراشد العقل المهدي له إلى حقائق ما تضمنه النقل بتدبير الآيات، والتذكر بأنواع الدلالات، ووقف على ما كان عنه غافلًا، وعن البحث عنه عاطلًا. فيحسن بمن بلغ بكبر السن هذه الرتبة أن يتذكر حال انحطاطه عنها بالتأسف والتشوق إلى حال كان محجوبًا عن درك غاية المطالب واكبر الرغائب. كذا يكون العقلاء.
وما هذا عندي إلا بمثابة من وصل إلى المنزل والوطن، فتشوق إلى وعثاء السفر وعناء الطريق وكلفة النقل، أو بمثابة من بلغ من العلم غاية امتاز بها، فأخذ في التشوق إلى أيام الطلب، وأوقات النظر والفكر والبحث، وزنقات الطرق، ومرارات التردد، ومعاناة الشكوك. ولم يغلب عليه درك