" المخلصين " وهم في صدر الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض، أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. حنيفا: أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير كقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} 3، وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 4
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: في الآية يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه، ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر، فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله، كما تقدم في الباب قبل هذا.
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5 قال العماد ابن كثير - رحمه الله - تعالى: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. والأمة: هو الإمام الذي يقتدى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد، ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 6، وقال مجاهد: " كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار "
"قلت ": وكلا القولين حق فقد كان الخليل - عليه السلام – كذلك، وقول مجاهد- والله أعلم- لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 7 الآيات، وقوله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 8 فهذا- والله أعلم- كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره وبذلك جاء الحديث9.