ولم يكن في وقتهما أعلى منهما فكرًا، وأبعد نظرًا، وأثقب ذهنًا، في فهم المتون والنصوص، والتمييز في بين العموم والخصوص؛ وكان وجودهما ضربة شديدة على الحشوية، وتلك الطبعة الجامدة، التي هي وأمثالها صارت حجة على الإسلام في تدهوره وإنحطاطه، وفقده معاليه السالفة.
وقد كنت لا أغشى دمشق مرة من المرار -والله يعلم كم كنت أزورها كل سنة- إلا كان أول ما أبادر إليه زيارة الأستاذين: الشيخ عبد الرازق البيطار، والشيخ كمال القاسمي، رحمهما الله، وجزاهما عن الإسلام خيرًا، وكانت تستمر مجالستي مع كل منهما أو معهما مجتمعين، الساعات الطوال، في الأيام والليال، ولا نشرع بمرورها، بسبب طرافة الحديث، ولطفاة النكات، وجلالة المواضيع، ونصاعة البراهين، وغزارة الشواهد، والنظم بين المعقول والمنقول، والجمع بين الفروع والأصول. فكنت إذا سمعت محاضراتهما نسيت نفسي، ورأيتني في حياة غير الحياة التي أعهدها. وكم حفظت مما سمعته منهما من شوارد، وعلقت من نوادر، وفهمت من حقائق، وتذوقت من رقائق، أنا فيها عيال عليهما وإني لأجر ذيل التية بهذا السند.
وقد كان للشيخ جمال رحمه الله عدا إحاطته العلمية، معارف لا يساويه فيها أحد من المجتمع الإسلامي عمومًا، والعربي الشامي خصوصًا. فقد صح فيه ذلك التعريف الذي عرف به بعضهم "العالم" فقالوا: "هو قبل كل شيء العالم بأحوال عصره ومصره".
وقد كنت إذا فارقت ذينك الأستاذين، لا أفتأ أعشو إلى منارهما، وأجاذبهما حبال المراسلة، استفادة منهما على البعد، واستحضارًا في الخيال لروحيهما اللتين هما معدن الأنس.
وعندي منهما كتب أعدها من أنفس الذخائر، وأثمن ما يورثه الأول للآخر. وربما أنشر بعض كتابات الشيخ جمال في أول فرصة تتسنى لي.
وكنت أعلم أن للشيخ جمال تآليف ممتعة، وربما كان يطلعني على بعضها، وربما طالعني ببعض آرائه فيها، واستأنس برأي القاصر، واستوري زندي الفاتر، وهو مع ذلك صاحب الرأي الذي انتهت إليه الأصالة، والقولخ الذي اندمجت فيه الدقة مع الجلالة.