وَأَمَّا الْوَدَائِعُ فَلَوْ لَزِمَتْ لِتَضَرُّرِ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَوْدَعِ، وَلَزَهِدَ الْمُسْتَوْدَعُونَ فِي قَبُولِ الْوَدَائِعِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ فَأَلْحَقهُمَا عَلَى قَوْلٍ بِالْإِجَارَاتِ، وَأَلْحَقهُمَا عَلَى قَوْلٍ بِالْجَعَالَاتِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ: مَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ فِي جَوَازِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ وَلُزُومُهُ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ كَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ، وَإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الرَّهْنُ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ التَّوَثُّقُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِلُزُومِهِ عَلَى الرَّاهِنِ وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُرْتَهِنِ فَلَهُ إسْقَاطُ تَوَثُّقِهِ بِهِ كَمَا تَسْقُطُ وَثِيقَةُ الضَّمَانِ بِإِبْرَاءِ الضَّامِنِ وَهُوَ مُحْسِنٌ بِإِسْقَاطِهِمَا.
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَمَقْصُودُهَا الْأَعْظَمُ حُصُولُ الْعِتْقِ فَلَوْ جَازَتْ مِنْ قِبَلِ السَّيِّدِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَفْسَخَهَا مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَنْ يَكْدَحَ الْعَبْدُ فِي تَحْصِيلِ مُعْظَمِ النُّجُومِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ، وَجَازَتْ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ إذْ لَا يَلْزَمُهُ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ حُرِّيَّتِهِ.
وَأَمَّا عَقْدُ الْجِزْيَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الْكَافِرِينَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِهِ وَلَوْ جَازَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ لَامْتَنَعَ الْكَافِرُونَ مِنْهُ لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهِ لَكِنْ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِأَسْبَابٍ تَطْرَأُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ غَيْرُ مُنْفَرِدٍ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ.
وَأَمَّا إجَارَةُ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَجِيرِينَ لَازِمَةٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا إلَّا بِلُزُومِهَا مِنْ قِبَلِنَا فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَلْزَمْ لَفَاتَ مَقْصُودُهَا وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُسْتَجِيرِ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولِ فِيهِ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ مَنَعْتُمْ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعُشْرِ فِي أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَقُلْتُمْ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قُلْنَا لِأَنَّا لَوْ خَالَفْنَا ذَلِكَ لَزَهِدُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى بِلَادِنَا وَانْقَطَعَ ارْتِفَاقُ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُشُورِ وَبِمَا يَجْلِبُونَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَالْأَقْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.