فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ صَادِقًا فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فِيمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ؟ قُلْنَا الْكَذِبُ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ فِي الشَّرْعِ، كَمَا يَجُوزُ كَذِبُ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ، وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُخْتَصِمَيْنِ، وَفِي هَذَا الْكَذِبِ مَصَالِحُ.

أَحَدُهَا: السَّتْرُ عَلَى الْمَقْذُوفِ، وَتَقْلِيلُ أَذِيَّتِهِ وَفَضِيحَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ.

الثَّانِيَةُ: قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ.

الثَّالِثَةُ: عَوْدُهُ إلَى الْوِلَايَاتِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ؛ كَنَظَرِهِ فِي أَمْوَالِ أَوْلَادِهِ وَإِنْكَاحِهِ لِمَوْلَيَاتِهِ.

الرَّابِعَةُ: تَعَرُّضُهُ لِلْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ.

[فَائِدَةٌ بَحْثُ الْحَاكِمِ عَنْ الشُّهُودِ عِنْدَ الرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ]

(فَائِدَةٌ) بَحْثُ الْحَاكِمِ عَنْ الشُّهُودِ عِنْدَ الرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ حَقٌّ وَاجِبٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، فَإِنْ بَحَثَ عَلَى حَسَبِ إمْكَانِهِ فَلَمْ تَزُلْ الرِّيبَةُ وَالتُّهْمَةُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَا فِي وُسْعِهِ، وَهَذَا مُشْكِلٌ عِنْدَ قِيَامِ الشَّكِّ مَعَ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ، عِنْدَ غَلَبَةِ كَذِبِ الشُّهُودِ عَلَى ظَنِّهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إذَا شَهِدَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ أَوْ الْعَدُوُّ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ الْفَاسِقُ بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ الْحَقِّ، وَالْحَاكِمُ لَا يَشْعُرُ بِالْوِلَادَةِ وَالْفُسُوقِ وَالْعَدَاوَةِ فَهَلْ يَأْثَمُ الشُّهُودُ بِذَلِكَ؟ قُلْت: هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْمِلُوا الْحَاكِمَ عَلَى بَاطِلٍ، وَإِنَّمَا حَمَلُوهُ عَلَى إيصَالِ الْحَقِّ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَإِنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ لِلتُّهَمِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَانِعَةٌ لِلْحَاكِمِ مِنْ جِهَةِ قَدْحِهَا فِي ظَنِّهِ، وَهَهُنَا لَا إثْمَ عَلَى الْحَاكِمِ لِتَوَفُّرِ ظَنِّهِ، وَلَا عَلَى الْخَصْمِ؛ لِأَخْذِ حَقِّهِ، وَلَا عَلَى الشَّاهِدِ لِمَعُونَتِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقُولُونَ فِيمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى إنْسَانٍ فَاسْتَعَانَ عَلَى أَخْذِهِ بِبَعْضِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ فَسَاعَدَاهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْوَالِي وَالْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ الْوَالِي وَالْقَاضِي آثِمَيْنِ فِي أَخْذِهِمَا الْحَقَّ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؟ قُلْت: أَمَّا الْوَالِي وَالْقَاضِي فَآثِمَانِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَعِينُ بِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ إلَى الْحَقِّ الْمُسْتَعَانِ عَلَيْهِ وَلَهُ رُتَبٌ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015