وكان من أكمل الرجال رأيا وأرجحهم عقلا، وهو أول من وضع النحو، قيل: السبب أن إحدى بناته قالت له: يا أبت؛ ما أحسن السماء! برفع (أحسن) وجر (السماء)، فقال: يا بنية؛ نجومها، قالت: إني لم أرد: أي شيء فيها أحسن، إنما تعجبت من حسنها، فقال: إذن قولي: ما أحسن السماء! ووضع حينئذ نبذة في النحو، فقيل له: من أين لك هذا العلم؟ فقال: تلقيت حدوده من علي بن أبي طالب.
وقيل: إنه سمع قارئا يقرأ: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) فجر (رسوله) فقال: ما ظننت أن أمر الناس يؤول إلى هذا! فأتى إلى زياد واستأذنه في شكل المصحف بعد أن كان طلب منه زياد فامتنع، فيقال: إن زيادا دس عليه من سمّعه ذلك اللحن ليفعل، وهو أول من شكل المصحف ونقطه.
وكان له دار فباعها، فقيل له: بعت دارك؟ ! فقال: بل بعت جاري، فأرسلها مثلا لمن باع الدار هربا من الجار.
قلت: ونظم هذا المعنى بعض الشعراء الفصحاء، ولله دره حيث يقول: [من الطويل]
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي … على أنّ لي جارا هناك ينغّص
فقلت لهم لا تعذلوني فإنما … بجيرانها تغلو الديار وترخص
والله أعلم.
دخل يوما على عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي-وقيل: على المنذر بن الجارود-وعلى أبي الأسود جبة رثة كان يكره لبسها، فقال له: يا أبا الأسود؛ أما تمل لبس هذه الجبة؟ ! فقال: ربّ مملوك لا تستطيع فراقه، فلما خرج من عنده .. سير إليه مائة ثوب، فكان أبو الأسود ينشد ذلك: [من الطويل]
كساني ولم أستكسه فحمدته … أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإنّ أحقّ الناس إن كنت شاكرا … بشكرك من أعطاك والعرض وافر
قلت: يروى: (مملول) باللام، و (مملوك) بالكاف (?)، وذكر ذلك ابن خلكان في «تاريخه»، والله أعلم (?)، ويروى: (ناصر) بالنون من النصرة، و (ياصر) بالمثناة آخر الحروف من التعطف والحنو.