المسألة الأولى: هل يجوز بدلالة هذه الآية أن نسأل الناس؟ موسى والخضر استطعما، وهذا المقطع (الألف، والسين، والتاء) ، إذا دخل على الفعل دل على الطلب مثلاً: استعمار: أناس يطلبون أن يعمروا، استجداء: طلب الجدة، استثناء.
إلخ، وموسى والخضر استطعما! فهل سألا الطعام والإطعام؟! يذهب الحريري في مقاماته إلى أنه بدلالة هذه الآية يجوز لك السؤال، وقد علق القرطبي على هذه المقالة بقوله: (وهذا استخفاف بالمرسلين وقلة احترام للنبيين، وهي شنشنة أدبية وهفوة ظاهرية) .
إن الإسلام لم يجز للمسلم أن يطلب من الناس شيئاً إلا ثلاثة أشياء فقط، طبقاً للحديث الذي رواه مسلم من حديث قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه: أنه كان تحمل حمالة، أي: أن طائفتين اختلفتا على دية قتيل أو على غرم أو شيء، فأبت كل طائفة أن تدفع، وطالما أنه لم يدفع أحد الطرفين فسيظل الخصام، فيقوم رجل ويقول: تصالحا وأنا سأدفع، فهذا هو معنى الحمالة.
فـ قبيصة كان تحمل حمالة بين طائفتين اقتتلتا، فلما جاء موعد السداد لم يجد معه مالاً.
فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا يرجح أنه كان في صدر الإسلام- فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاني مال أعطيك، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: لرجل تحمل حمالة حتى إذا جاء موعد الوفاء لم يكن معه) هذا يجوز له أن يسأل الناس، (ورجل اجتاحت أمواله جائحة فأتت عليها) هذا يجوز له أن يطلب من الناس، (ورجل أصابته فاقة -أي: فقر- فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه -أي: من ذوي العقل- فيشهدون على فاقته -أي: على فقره- فيأخذ ما يسد به حاجته، يا قبيصة! بغير هذه الثلاثة فإنما تأكل أموال الناس سحتاً) .
الإسلام دين عزيز، يعز عليه أن يرى بعض أتباعه يريقون ماء وجوههم، أعطاهم الناس أو ردوهم، ويعلم الله أن هؤلاء الذين يسألون الناس غالبهم إنما يستكثر من أموال الناس لا غير، قال الله عز وجل في صفة المؤمنين الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، قال عنهم: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] والإلحاف: هو كثرة السؤال.
مرة كنت أقف في شارع، فإذا بيد تجذبني من الوراء، فالتفت فإذا امرأة تقول: لله، هذا الموقف لا أزيد فيه حرفاً، أنا تصورت أني ارتكبت جرماً لأنها كانت جذبة شديدة.
هذه المرأة لو نظرت إليها تجدها في قوة وعافية، أين زوجها؟ أين أولادها؟ أين أبوها؟ أين أخوها؟ أين خالها؟ أين رحمها؟ تخرج، وعن عمد يلبسون الثياب المقطعة إظهاراً للفقر، مع أن هذا مناف أصلاً لديننا، لا يجوز لك على رأي بعض العلماء إن كنت تستطيع أن تلبس ثياباً حسنة أن تلبس أقل منها، فإنك مأمور من قبل الشرع أن تظهر أثر نعمة الله عليك، كما في الحديث الصحيح: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) .
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (ما من رجل يسأل الناس إلا أتى يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم) رجل أراق ماء وجهه وأزال لحم وجهه، يأتي يوم القيامة ليس على وجهه مزعة لحم.
ومن حديث أبي هريرة عند مسلم أيضاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يسأل الناس استكثاراً من أموالهم ليس عن ظهر حاجة فإنما يستكثر به ناراً، فليستكثر أحدكم أو ليقل) .
ومنذ سنين نشر في الصحف -وإن كان كثير مما في الصحف لا يصدق إنما هذا ليس بمستبعد- أنهم ألقوا القبض على امرأة تقعد على كيس فلما فتحوا الكيس إذا به مال، فلما أحصوه زاد على السبعة آلاف، فمثل هذا النمط لا يكون يوم القيامة على وجوهم مزعة لحم.