لا شك أن سير العلماء من أكبر الدوافع على الوصول إلى هذا الهدف، واقرأ السيرة النبوية مثلاً تجد أنك تستمتع وتشعر أحياناً باندفاع عنيف لا تملك فيه الدموع وأنت تقرأ مثلاً موقف صحابي في غزوة، فمثلاً: الواقعة المشهورة التي كان فيها أحد الصحابة قال: (لما انتهينا من الغزوة ذهبت أتفقد أخي فصادفته بين الجرحى، وهو يقول: ماء ماء، يريد أن يشرب ماءً، وكان بجانبه أفراداً من جرحى المسلمين الذين يكابدون الموت، وكل منهم يقول: أريد ماء، فلما همَّ أن يسقي أخاه قال: سل الذي بجانبي لعله أشد ظمأً مني، فسأله فقال: سل الذي بجانبي، حتى ذهب إلى العاشر، فقال: سل غيري لعله أشد مني عطشاً.
فرجع إلى أخيه فوجده قد مات، فرجع إلى بقية الجرحى فوجدهم قد ماتوا، فأي إيثار يمكن أن يصل بالإنسان إلى أن يموت من العطش، فهو يعاني وروحه تخرج، ومع ذلك في هذا الموقف الذي لا إيثار فيه وكل إنسان يبحث عن روحه وعن حياته يؤثر أخاه على نفسه، وهذا الموقف عندما تقرؤه يؤثر فيك، وتجد أنك لا تستطيع أن تتمالك دمعك، وعندما تقرأ أن ابن عمر كان يمشي ومعه رغيف واحد ليس معه غيره فأعطاه لمسكين، مع أن الموقف الآخر يؤثر أكثر.
وعندما ترى مثلاً رجلاً كـ عمرو بن الجموح، رجل أعرج شديد العرج، يريد أن يحارب الكفار، وكانت الحرب في الزمن الماضي تدل على مدى شجاعة الرجل، ولا يدخلها رجل جبان إذا أفزعه أحد أو رأى ظلاً أو خيالاً يموت خوفاً، ومع ذلك يمكن أن يهدم مدينة بكاملها وهو قاعد في قاعدة صاروخ يضرب فيقتل مثلاً مائة ألف.
بل الحرب في الزمان الماضي كان لها مقياس آخر غير اليوم، ولذلك يقول الله عز وجل في اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فهؤلاء (الحرب) بمعنى المواجهة الشخصية لا توجد عندهم، والحرب عند العرب كانت مواجهة شخصية، وهذا إقبال على الموت أشد من كون الشخص يركب دبابة أو يختبىء خلف جبل.
ففي الماضي كانت صورة الجهاد أوضح وأحسن، لأنه إذا دعي للمبارزة مثلاً فأقل حركة أو أقل سهو يمكن أن يطير برأسه.
فهذا عمرو بن الجموح الأعرج يريد أن يحارب ويريد أن يفر ويكر، وكان له مجموعة من الأولاد يقاتلون في جيوش المسلمين، فقالوا: (يا أبانا! إنك ممن عذر الله) الأعرج والأعمى والمريض ليس عليهم حرج في مسائل الجهاد خاصة، فلا يقول قائل: إنه ليس عليه حرج في الصلاة ونحوها ويترك العمل، بل ليس عليه حرج في الجهاد فقط الذي يحتاج إلى كر وفر.
فبكى الرجل وقال: (أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة) دعوني، فذهب يشتكي بعينيه الدامعتين للنبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (أريد أن أقاتل وأولادي يمنعونني) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة، فكان من أوائل الذين قتلوا، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيته في الجنة وما بعرجته من عرج) .
فوطئ الرجل بعرجته الجنة، فهذا الرجل قلبه قلب شاب، وكثير من الشباب اليوم يكون عمره اثنين وعشرين سنة وقلبه قد شاخ، لا يريد أن يفعل شيئاً.
وانظر إلى ذاك الرجل الذي كان سنه (85) سنة أو أكثر وأسلم وهو في مكة، وبطبيعة الحال لن يستطيع أن يهاجر إلى المدينة لضعفه، إلا أن قلبه قلب شاب وإن كان جسمه كبر، ففي يوم من الأيام قال: (وما الذي يقعدني بين ظهراني الكفار؟ والله لأخرجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع أن السفر من مكة إلى المدينة (500) ، يريد أن يمشيها ليكون عند مصدر الضوء والنور.
فخرج رغماً عن أولاده، ثم لما كان في منتصف المسافة أو في ربعها أدركه التعب الذي يدرك العباد فغلبه، فأوشك أن يموت، فلما استشعر هذا ضرب كفاً على كف، وقال: (اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك) ومات الرجل، فنزل فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] وإذا وقع أجرك على كريم فليس هناك حساب؛ لأن الله لا يتعامل مع عباده بحساب، إنما يقول: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54] .
عندما تقرأ سير السابقين الصالحين تجد أن عندك اندفاعاً لأن تكون مثل هؤلاء، لأجل هذا لابد من مراجعة السيرة النبوية، وكيف كان الصحابة يتصرفون في أشد المواقف.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما أسلم محمد ابنه إلا بعده بفترة، فلما تقابلا في بدر، كان محمد بن أبي بكر يقول لأبيه بعد ما أسلم: (لقد كنت أقابلك وأروغ منك خشية أن أقتلك) .
لأن ابنه كان في صفوف الكفار وأبو بكر في صفوف المسلمين، فابنه بعدما أسلم يقول له: أنا في الغزوة الفلانية كنت أتحاشاك حتى لا يصيب سيفي رأسك فأقتلك، فقال له أبو بكر: (أما والله لو رأيتك لقتلتك) .
عندما ترى هؤلاء الذين لا يجعلون أي إنسان مقدماً على دينهم ولا على حب نبيهم صلى الله عليه وسلم تعلم أن حقيقة الحب لله ورسوله أن تلتزم وتعيش حياتك حياة مسلمة.
لأجل هذا أؤكد على السيرة النبوية فيما يتعلق بالرعيل والجيل الأول، وكيف نشأ هذا الجيل، حتى ملكوا الدنيا كلها، حتى قال هارون الرشيد في القرن الثاني الهجري وقد جلس على المنبر فرأى سحابة في السماء، فقال لها: (أيتها السحابة، أمطري هنا أو أمطري هناك فسوف يأتيني خراجك) ، هذا هو عز المسلمين، أمطري هنا أو أمطري في آخر مكان في العالم فإن خراجك سيأتيني؛ لأن الإسلام هو الذي كان مسيطراً على الأرض آنذاك.