قد يغلو البعض في الخضر بأشد من ذلك، وإذا جاءك رجل صالح ما جربت عليه كذباً قط، فأقسم بالله وبالأيمان الغلاظ أنه رأى الخضر بعينيه وكلمه، وقال: أنا الخضر، وأقسم له أنه الخضر.
غير ممكن أنك ترمي هذا الرجل بالكذب أو الوهم، إذ هو عابد عالم وأقسم أنه رأى الخضر وأن الذي رآه أقسم له أنه الخضر، لكن هذا لا يكون دليلاً على أن الخضر موجود.
وإليكم البيان: نحن نسلم أن هناك من يرى بعض الأشخاص يقول له: أنا الخضر، وقد يراه على خلقة أعظم من خلقة بني آدم التي يراها، لكننا نقول: إن ذلك شيطان، وأبو إسحاق الحربي قال: (ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان) .
ونحن نعلم أن الشيطان يتشكل في صورة الآدمي، ويتشكل في أي صورة، بخلاف بعض الذين قالوا: لا يتشكل إلا على شكل قطة أو هرة أو حيوان ولا يتشكل على شكل إنسان، فإن عندنا الدليل القاطع على أنه يتشكل حتى على شكل إنسان.
وهذا الدليل هو قصة أبي هريرة مع سارق الصدقات كما في صحيح البخاري، وأن هذا السارق كان شيطاناً جنياً؛ بل صرح هو بهذا لـ أبي هريرة.
فهذا الجني يتشكل في أي صورة، فقد يتشكل في صورة آدمي عظيم الخلقة، ثم يقول: أنا الخضر ليضل هؤلاء الناس، فيا عجباً لمن صدقه بأنه الخضر! وما يدريه أن هذا صادق عندما قال له: أنا الخضر؟ وهذا يذكرنا بقصة الثعلب الذي لبس جبة وفسطاطاً وأمسك مسبحة ودعا الديك حتى يؤذن للصلاة، فمن أين لنا أن هذا الثعلب صادق؟ أذكر أنني سمعت محاورة بين شيخنا الألباني حفظه الله وبين رجل مصري يعالج المصابين بالجن، فقال المصري للشيخ: هل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم في علاج الحالات؟ لأن الذي مس هذا الإنسان جني كافر، إما نصراني أو يهودي أو مجوسي، فهل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم الذي عنده القوة على أن يقاوم هذا الجني الكافر؟ فكان جواب الشيخ له هو جواب العالم الذي لا يترك الفرع ويدخل في الأصل مباشرة، ومن علامة عدم الوصول إلى الحق أنك لا ترسي أصلاً تنطلق منه، فقال له الشيخ: وكيف عرفت أنه مسلم؟ هذا هو الأصل، فلا نسلم أنه مسلم.
قال: منه.
قال: ومن أدراك؟ أليس من الجائز أن يكون أكفر جني على وجه الأرض، ثم يقول لك: أنا مسلم ويستدرجك، أليس هذا جائزاً؟ قال: جائز.
قال: فمن أين لك أن تعلم أنه مسلم؟ إذاً: كما يقول بعض علمائنا المتأخرين: اثبت العرش ثم انقش، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج.
فنحن لا نستطيع أن نخوض في هذه المسألة إلا إذا ثبتنا هذا الأصل، وهو كيف نعرف أنه مسلم؟ من المعروف أنه عندما يكون الجني كافراً يستحل كل شيء حتى دعوى أنه مسلم، فلا نصل إذاً إلى حل، فيبقى أنه لا يجوز لك أن تعتمد على الجني المسلم بزعمه أنه مسلم حتى تثبت أنه مسلم وهيهات هيهات.
وليست كل دعوى تخرج من فم إنسان تسلم له، وإلا فأكثر أهل الأرض أدعياء، يدعون الكرم والشجاعة والعلم والأخلاق، ويدعون كل شيء، ويتبرءون من كل رذيلة وإن كانوا هم صناعها.
حتى أن بعضهم يقول: الغاية تبرر الوسيلة، ويجعلها قاعدة عنده ليبرر عدوانه، فكل إنسان يدعي الكمال وما ليس فيه.
فلو قال هذا الرجل الذي يظهر على أنه الخضر: أنا الخضر، كيف سلمت له أنه الخضر، ولماذا لا تكون أنت بذاتك الخضر مثلاً؟