الفصل الثالث
كانت أوربا في العصور الوسطى منقسمة نصفين أحدهما لاتيني والآخر يوناني وإن كانت تجمعهما آلي حد ما لغة مشتركة. وكان النصفان متعاديان ويجهل أحدهما الآخر. وقد نسى الشرق اليوناني التراث اللاتيني ما عدا القانون، كذلك نُسى التراث اليوناني في الغرب كله ما عدا الصقليتين؛ لكن بعض التراث اليوناني كان مختبئاً وراء أسوار المسيحية- في بيت المقدس الإسلامية، والإسكندرية، والقاهرة، وتونس، وأسبانيا؛ أما العالم الواسع الرقعة البعيد الشقة الذي يشمل الهند والصين واليابان، والذي كان من عهد بعيد غنيا بالأدب والفلسفة والفن، فلم يكد العالم المسيحي قبل القرن الثالث عشر يعرف عنه شيئا.
واضطلع اليهود ببعض العمل الذي يهدف إلى ربط الثقافات المختلفة بعضها ببعض، فقد كانوا ينتقلون بين هذه الثقافات تنقل مجاري الماء المخصبة تحت تربة الأرض. ولما كثر عدد اليهود المهاجرين من بلاد الإسلام إلى البلاد المسيحية، ونسوا اللغة العربية، رأى علماؤهم أنه يجدر بهم ان يترجموا المؤلفات العربية (التي ألف اليهود كثيراً منها) إلى اللغة التي لا يعرف علماء هذا الشعب المشتت غيرها وهي اللغة العبرية. ومن أجل هذا ترجم يوسف قمجي (1105؟ - 1190؟) في نربونة كتاب (المرشد إلى واجبات القلب) تأليف الفيلسوف اليهودي بهية إلى تلك اللغة. وكان يوسف هذا والد أبناء من جلة العلماء، ولكن أعلى منهم كعبا في شؤون الترجمة أبناء يهوذا بن شاؤل بن طبون (1120؟ - 1190؟)؛ وكان هو أيضاً قد هاجر من بلاد الأندلس الإسلامية إلى جنوب فرنسا؛ وهو وإن كان من أكثر أطباء عصره نجاحا في مهنته كان له