قصه الحضاره (صفحة 569)

نبوءاته التي يقال أنه تلقاها عند تلميذه باروخ ليعد من أبلغ ما كتب في الآداب كلها ومن أعظمها قوة؛ وذلك لما فيه من تصوير حي واضح وتأنيب شديد لا رحمة فيه ولا هوادة. وفيه فوق ذلك إخلاص يبدأ بسؤال الرجل نفسه ثم يختتم بارتياب شريف في خطته وحياته كلها من بدايتها إلى نهايتها: "ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض، لم أقرض ولا أقرضوني، وكل واحد يلعنني ... ملعون اليوم الذي ولدت فيه" (121).

واشتعلت في صدره نيران الغضب حين رأى ما عليه قومه وزعماؤهم من انحطاط في الأخلاق وحمق في السياسة. ورأى فرضاً عليه أن يدعو بني إسرائيل إلى التوبة والندم. وخيل إلى إرميا أن كل ما يشهده من انحلال قومي، وضعف سياسي، وخضوع للأجنبي، قد أنزله يهوه باليهود عقاباً لهم على ما ارتكبوا من الذنوب. "طوفوا في شوارع أورشليم، وانظروا، واعرفوا، وفتشوا في ساحاتها، هل تجدون إنسانا، أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها" (122). لقد ساد الظلم في كل مكان وعم الفسق والفجور: "ولما أشبعتهم زنوا، وفي بيت زانية تزاحموا، صاروا حصنا ملعونة سائبة، صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه" (123).

ولما حاصر البابليون أورشليم أراد سراة المدينة أن يسترضوا يهوه فأطلقوا من كان عندهم من عبيد عبرانيين، فلما أن رفع الحصار فترة قصيرة من الوقت وخيل إليهم أن الخطر قد زال، قبض هؤلاء السراة على عبيدهم السابقين وأرغموهم على عبوديتهم القديمة. لقد كانت هذه فترة جمعت من تاريخ الإنسانية ما لم يستطع إرميا أن يقف أمامه صامتاً ساكناً لا يبدي حراكاً (124)، فأخذ كغيره من الأنبياء يتوعد المنافقين الذين يجيئون إلى الهيكل متظاهرين بالتقى والصلاح يحملون بعض ما جمعوا من كدح الفقراء وطحن عظامهم، ويذكرهم بأن الله لا يطلب إلى الناس أن يقربوا له القرابين بل يطلب إليهم أن يكونوا منصفين عادلين (125). وهو يرى أن الكهنة والأنبياء لا يكادون يقلون فساداً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015