وبلغ كسرى أبرويز (الظافر) درجة من السلطان لم يبلغها ملك آخر من ملوك الفرس منذ أيام خشيارشاي، ومهد السبيل لسقوط دولته؛ ذلك أنه لما قتل فوفاس موريس وجلس مكانه على العرش أعلن أبرويز الحرب على المغتصب (306) انتقاماً لصديقه؛ ولكن الواقع أن الحرب لم تكن إلا تجديداً للنزاع قديم. وكانت الدولة البيزنطية قد مزقها الشقاق والتحزب، فلم تجد جيوش الفرس صعوبة في الاستيلاء على دارا، وأميدا، والرها، وهيرابوليس، وحلب، وأباميا، ودمشق (605 - 613). وزاد هذا النصر من حماسة أبرويز فأعلن الحرب الدينية على المسيحيين، وانضم 26. 000 من اليهود إلى جيشه، ونهبت جيوشه المتحدة في عام 614 أورشليم، وقتلت 90. 000 من المسيحيين (47)، وأحرقت كثيراً من كنائسها ومن بينها كنيسة الضريح المقدس، وأخذ الصليب الحق، وهو أعز أثر على المسيحيين، إلى بلاد الفرس. وأرسل أبرويز إلى هرقل Heraclius الإمبراطور الجديد رسالة دينية قال فيها: "من كسرى أعظم الآلهة وسيد الأرض كلها إلى هرقل عبده الغبي الذليل: إنك تقول إنك تعتمد على إلهك، فلم إذن لم ينقذ أورشليم من يدي؟ " (48). واستولى جيش فارس على الإسكندرية في عام 616، ولم يحل عام 619 حتى دخلت مصر كلها في حوزة ملك الملوك، وهو ما لم يحدث لها منذ أيام دارا الثاني. وفي هذه الأثناء كان جيش فارسي آخر يجتاح آسية الصغرى ويستولي على خلقيدون (617)؛ ولبثت تلك المدينة في أيدي الفرس عشر سنين وهي التي لم يكن يفصلها عن القسطنطينية إلا مضيق البسفور. وكان أبرويز في هذه السنين العشر يدمر الكنائس، وينقل ما فيها من الآثار الفنية والكنوز إلى بلاد الفرس ويفرض على آسية الغربية من الضرائب الفادحة ما ينضب منه معينها وما أعجزها عن مقاومة غزو العرب الذي لم يكن بينها وبينه وقتئذ إلا نحو جيل من الزمان.
ثم ترك كسرى تصريف الحرب لقواده، وعاد لينقلب في اللهو والترف