كل شبر من هذا النصف كان يفلح بالجهد الصابر والرعاية الفائقة. وكانت الأرض المنحدرة تقسم إلى مصاطب لتحتفظ بالتربة، والكروم تتدلى من شجرة إلى شجرة فتزدان بها بساتين الفاكهة. أما الجنوب فكانت أرضه ضعيفة، وجففت الشمس المبتسمة في سخرية الأنهار والتربة والإنسان، ولم يرخِ الإقطاع قبضته التي فرضها على الناس في العصر الوسيط. وكان من الأمثال الساخرة قولهم "أن المسيح لم يتجاوز قط جنوبي إيبولي"- التي كانت إلى الجنوب تماماً من سورينتو. أما وسط إيطاليا فكان خصب التربة، يلفحه الزراع نظير حصة من المحصول بإشراف كبار رجال الكنيسة. وأما في الشمال-لاسيما في وادي نهر بو-فقد أشبعت القنوات الأرض رياً، وكانت هذه القنوات تتطلب رؤوس الأموال تنفق عليها، والفلاحين المدربين على تطهير الصفاية وتقوية الشواطئ. وهنا أيضاً زرع الفلاحون أرض غيرهم لقاء نصيب من المحصول. ولكن في هذه الحقول المثمرة استطاع الناس أن يحتملوا كل شيء حتى الفقر وهم محتفظون بكرامتهم.
وقامت مئات القرى على السهول، وفي التلال، وعلى شاطئ البحر: قرى قذرة متربة في الصيف، صاخبة في الصباح بأحاديث الفلاحين وهم يمشون الهوينا إلى وقدة الحر، ساكنة في الظهيرة، شاغبة في المساء بثرثرة المثرثرين وبالموسيقى ولقاءات المحبين. وكان الإيطاليون يحبون القيلولة أكثر من حبهم للمال، وهي فترة قال فيها الأب لابا "لا يرى المرء في الشوارع أثناءها غير الكلاب والحمقى والفرنسيين". (1) وكان هناك عشرات المدن الملآى بالكنائس والقصور والمتسولين والفن، وست مدن تضارع باريس جمالاً، وألوف من مهرة الصناع ما زالوا في قمة فنهم. وكانت الصناعة الرأسمالية تتطور من جديد في مجال النسيج لاسيما في ميلان وتورين وبرجامو وفتشنتا، ولكن معظم العمل حتى في النسيج كان يؤدي على أنوال بيتية جزءاً من حياة الأسرة. وكانت هناك طبقة وسطى صغيرة (قوامها التجار والمصرفيون والفنانون والكهنة) آخذة في النمو وسطاً بين الطبقة الأرستقراطية (طبقة ملاك