شأن كل المرايا-تظهرنا في أجمل صورة) يتطاير شعره هنا وهناك دون مبالاة، في ترفع الشباب عن التقاليد والأعراف، تنبئ عيناه عن اليقظة والزهو بما ثبت من قدرته وكفايته.
والحق أنه كان بالفعل قد وطد مركزه. وفي 1629 نقّده أحد الخبراء 100 فلورين أجراً لصورة-وهذا أجر مناسب لمنافس صغير في بلد كان فيه عدد الرسامين كبيراً مثل عدد الخبازين، ولكنهم لا يشبعون بطونهم مثلهم. وكانت موضوعاته-بعد شخصه ووالديه-مأخوذة من الكتاب المقدس. وفي لوحته "أرميا-يرثي لخراب أورشليم (126) " تجلت الهالة الصوفية التي تميزت بها لوحات رمبرانت الدينية. أما لوحة "سمعان في الهيكل (127) " فإنها تعبر تعبيراً صادقاً عن روح ما جاء على لسان هذا الشيخ في الإنجيل: "الآن نطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام" (إنجيل لوقا 59: 5). وكلف من أمستردام بأعمال كثيرة إلى حد أنه عاد إليها في 1638. وقضى هناك بقية أيام حياته.
وفي خلال سنة مكن وصوله إليها رسم إحدى روائع الدنيا وهي "درس التشريح للأستاذ نيقولا تولب (128) "، وكان ثمة تشريحات كثيرة في التصوير الهولندي، ولم تمتهن السوابق، أو يخدش التواضع حين كلف الجراح الممتاز الذي كان أربع مرات عمدة لمدينة أمستردام، رمبرانت أن يرسمه، وهو يقدم عرضاً في التشريح في قاعة نقابة الجراحين، معتزماً أن يهدي الصورة إلى النقابة تذكاراً لأستاذيته، وربما كان دكتور تولب هو الذي اختار سبعة من "الطلبة" ليكونوا معه في الصورة، وواضح أنهم لم يكونا طلبة، بل رجالاً ناضجين من ذوي المكانة في الطب أو في مجال آخر، وانتهز رمبرانت الفرصة، كل الفرصة، ليبرز الوجوه متألقة بالشخصية والذكاء. وتبدو الجثة منتفخة على نحو غير ملائمة، واتخذ اثنان من المتفرجين وضعا تشهده الأجيال القادمة، ويمضي دكتور توليب في عمله في هدوء رجل متمرس واثق. أما الرجلان اللذان