العظام البادية تسري في جسمه، ويتصورها ملتفة حول عنقه فيحس بالقشعريرة تمشي في أعضائه، فيغض بصره عن الأفق فيتراءى له الشبح في هذه الرمال، ويخيل لنفسه أنها ليست إلا قبراً مفتوحاً فيكاد الخوف من الموت يهوي به ويقصف ركبتيه، فيرفع نظره عن الأرض، فيتراءى له الشبح في هذه الشمس التي تسكب عليه وعلى البادية وهج جهنم، فيغمض عينيه، فيتراءى له الشبح في الجوع الذي يلهب أمعاءه والعطش الذي يحرق جوفه والضلال الذي يملأ يومه وغده ...
ثم يزول النهار، ويشتد أوار الشمس ويبلغ لهيبها قرارة دماغه، فينسى الجوع والعطش ولا يبتغي إلا شبراً من ظل ... فيعدو كالمجنون ههنا وهاهناك، والصحراء مبسوطة كالكف ليس فيها غار يأوي إليه ولا صخرة يستظل بها، ولا بشر يلجأ إليهم ولا شجرة يستذري بها، فينبش في الرمل بيديه وأظافره ليجد في بطن الأرض رطوبة يدس فيها أنفه ليريح رائحة الحياة، ويوالي النبش بجنون ثم يطمر رأسه في الرمل، فلا يزيد على أن يدفن نفسه حياً في رماد حار ... فيجفو الرمل وينطلق يعدو حتى ينقطع ويعلوه البُهر (?) ويحس بأنه سيختنق، فيقبل من ضيقه يلطم وجهه بكفيه وينتف شعره بيديه، ويلعن المجد والسلطان، ويلعن هذه الصحراء، ويلعن نفسه حين استجاب لهذه الحماقة فخاض الصحراء وألقى بنفسه في جوفها الملتهب.
يندم أشد الندامة ويتمنى لو وجد إلى العودة سبيلاً، وهيهات