قصص من التاريخ (صفحة 168)

وتستأثر به، فينسى حاضره الواقع ويعيش في مستقبله المأمول، فيحس كأنه في دست الملك لا على حشيَّة المعلم، وأن أمامه الحاشية والأعوان لا الأولاد والصبيان. فيرفع صوته آمراً ناهياً، ويستغرق في أمره ونهيه، ويعجب التلاميذ وتتحرك في نفوسهم طبائعهم العابثة، فتستبق القهقهات إلى شفاههم، ثم تجمد عليها يردها خوفهم من هذا المعلم العابس وخشيتهم إياه، ثم تغلبهم طبائعهم فينفجرون ضاحكين صائحين ... فيتنبه المعلم الشاب فيُبلسون، ويزعق فيهم فيسكتون. ويتكرر ذلك، ويقصه الأولاد على آبائهم وأهليهم فيكذّبونه باديَ الرأي، ثم يصدّقونه، ثم يشيعونه في البلاد، فيصبح ملء الأفواه والأسماع أن كليباً المعلم الشاب قد أصابه طائف من الجن، فيأسفون ويحزنون لما عرفوا فيه من البلاغة وما آنسوا فيه من الرجولة والحزم، ولكنهم لا يعجبون. وهل يعجب الناس من معلم يجن؟ إنما يعجب الناس من المعلم إذا بقي عاقلاً وهو يعاشر أبداً هؤلاء التلاميذ!

* * *

وفي ذات صباح غدا التلاميذ على مدرستهم فلم يجدوا معلمهم الشاب، وكان دأبه أن يسبقهم، فانتظروه فلم يحضر، فذهبوا يطلبونه في بيته، فعلموا أنه باع بيته ليلاً وقبض ثمنه. ففتشوا عنه في كل مكان يظنون أنه يأوي إليه ... فتشوا في كل زقاق من أزقة القرية، وفي كل ذِروة من هذه الذُّرى القريبة منها، وكل صخرة من هذه الصخور القائمة من حولها. فلم يجدوا له أثراً!

ولما راح الرعاة في المساء سألوهم عنه، فقالوا: لقد رأيناه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015